عودة تسيبراس إلى الحكم في اليونان

04:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

نجح رهان تسيبراس على الانتخابات المبكرة في اليونان التي عين موعدها في ٢٠سبتمبر/ أيلول بعدما استقال في الشهر الماضي، مانعاً هكذا خصومه من الاستعداد لمعركة انتخابية حقيقية.
وكما كان متوقعاً فاز حزبه سيريزا في هذه الانتخابات وتمكن، بفضل دعم حزب السياديين اليونانيين المستقلين الذي حصل على ٣،٧٪ من الأصوات أي ما يعادل عشرة مقاعد نيابية، من تشكيل الحكومة الجديدة والتخلص في الوقت نفسه من رفاقه القدامى في سيريزا الذين عارضوا «استسلامه» للشروط الأوروبية.
فقد اجتمع هؤلاء تحت راية حزب جديد أسسوه باسم «الاتحاد الشعبي» لم ينجح في الاستحواذ على مقعد واحد في الانتخابات.
وهكذا استجمع تسيبراس في يديه كل الأوراق التي تتيح له خوض المحاولة الثانية لإخراج اليونان من كبوتها الاقتصادية، بضوء أخضر أوروبي وشعبي يوناني. ولكن الأمور لن تكون بهذه البساطة إزاء ما ينتظره من تحديات وما يعترض سبيله من عقبات.
على تسيبراس أن يستمر في التفاوض مع الأوروبيين، فما حصلت عليه اليونان من مساعدات وإعفاءات جديدة مع إبقائها في منطقة اليورو كان في مقابل تطبيقها لرزمة من الإصلاحات القاسية.
وقد بدأت بذلك بالفعل مع أن دينها العام لا يزال يزيد على ١٧٠٪ من ناتجها الإجمالي الداخلي، والفائض الخزيني الذي نجحت في تحصيله بالكاد يكفي لدفع خدمة الدين.
و«عودة النشاط الاقتصادي لن تكون بسحر ساحر (...) فالتفويض الذي منحنا إياه الشعب لمدة أربع سنوات هو تكليف بالتخلص من الفساد الذي يسيطر على البلد كما أعلن تسيبراس غداة فوزه.
سارع إلى تشكيل حكومته (من المخلصين له بالطبع) بعد يومين فقط على الانتخابات، قبل أن يتوجه للقاء نظرائه الأوروبيين في بروكسل في القمة المنعقدة لمواجهة أزمة اللاجئين.
كانت فرصة للعودة الظافرة إلى قلب القرار الأوروبي ومناسبة للتباحث حول الملفات الضخمة التي تنتظر نهاية العام الجاري مثل تحويل الدفعة الثانية من المساعدة المالية الأوروبية إلى أثينا ودعم المصارف اليونانية بسيولة نقدية جيدة، وبالطبع التفاوض حول مستقبل الدين اليوناني نفسه. وبعد تخلصه من رفيقه القديم وزير الاقتصاد السابق يانيس فاروفاكيس فالمتوقع أن تدور المفاوضات اليونانية-الأوروبية بقدر كبير من السلاسة والمرونة.
لقد منح الناخبون ثقتهم لتسيبراس للمرة الثالثة في أقل من عام.
الأولى كانت لدى انتخابه في يناير/كانون الثاني على أساس برنامج انتخابي يرفض التقشف ويعد بمقاومة الضغوط الأوروبية وبالتخلص من الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكم اليونان منذ عقود أربعة طوال.
والمرة الثانية كانت في الخامس من يوليو/تموز الماضي عندما قال اليونانيون «لا» للإصلاحات التقشفية الأوروبية،وذلك بنسبة ٦١٪ من المشاركين في الاستفتاء.
والغريب أنه في المرة الثالثة في ٢٠ سبتمبر/أيلول الماضي صوت الشعب لتسيبراس نفسه الذي أذعن للشروط الألمانية والذي لم يقدم من الوعود سوى فرض ضرائب ورسوم جديدة وتطبيق برنامج التقشف الأوروبي. وقريباً سيكون على البرلمان تبني أكثر من خمسة وأربعين من الإصلاحات التي فرضها الأوروبيون ويراقبون تطبيقها قبل أن يفرجوا عن المساعدات الموعودة لليونان.
لقد كشفت هذه الانتخابات عن رغبة اليونانيين العميقة بالبقاء في أوروبا، بدليل أن حزب «الاتحاد الشعبي» الذي أسسه باناغيوتس لافازين، الراديكالي اليساري المنشق عن سيريزا، لم يحصل على مقعد واحد في الانتخابات، بعد أن وعد بالخروج من أوروبا إذا أصرت على برنامج التقشف. وهكذا فسر البعض نتيجة الانتخابات بأنها دعم لتسيبراس في مفاوضاته لإبقاء اليونان في أوروبا مهما غلت التضحيات.
لم تكن هذه الانتخابات الأخيرة «تاريخية» كما كانت انتخابات يناير/كانون الثاني الماضي التي أوصلت، للمرة الأولى، حزباً راديكالياً يسارياً إلى السلطة في بلد أوروبي. لكن الانتخابات الأخيرة تشكل منعطفاً بالنسبة لليونانيين لأنها رفعت إلى السلطة مرشحاً لم يقدم وعوداً خيالية بل وعد فقط ب«محاولة أنسنة» تطبيق الإصلاحات والتخفيف قدر الإمكان من وقعها على الفقراء والمحرومين.
في سبعة أشهر فقط من الحكم تحول تسيبراس من المثالية إلى الواقعية السياسية والبراغماتية. لقد اختفى «الأمل» الذي جسده وصوله إلى الحكم في يناير الماضي، من اللافتات الانتخابية.
فقد غرق «تجديد اليسار الأوروبي» في مفاوضات مضنية طويلة مع رأسمالية أوروبية لا ترحم وانتهت بالتوقيع على ما يشبه صك الاستسلام للشروط الألمانية التي تم تخفيفها في الظاهر حفظاً لماء وجه اليونانيين ليس أكثر.
كانت المعركة الانتخابية الأخيرة باهتة تماماً.
سيريزا رفع شعار «فقط إلى الأمام» ومنافسه الرئيسي «الديمقراطية الجديدة» رفع شعار «اليونان إلى الأمام». هناك من يعتقد بأن تسيبراس قتل الراديكالي اليساري الذي كان في أحشائه وبأنه سيتحول إلى الوسط. في المقابل هناك من ينفي ذلك ويؤكد بأن الرجل يحمل قناعات يسارية تماما وبأنه سيبرهن ماذا يمكن لليسار أن يفعله في أربع سنوات للمصلحة الوطنية العليا ولتماسك المجتمع وللفقراء والمحرومين فيه.
أحد المحللين النفسيين يقول إن تسيبراس يعاني التخبط ما بين الواقع والشعور بخيانة المثال الثوري، لذلك يقضي وقته في الاعتذار من الشعب اليوناني لتوقيعه ألإصلاحات الأوروبية، وفي الوقت نفسه لا يمل من الوعد بتنفيذها.
سوف يحظى الرجل بدعم أوروبي كما يبدو من تصريحات المسؤولين الأوروبيين غداة الانتخابات التي أعطته تفويضاً شعبياً واضحاً.
فالشعب اليوناني فهم أن لا مناص من تقديم تنازلات مؤلمة إذا أراد الاستمرار في الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنه يريد ذلك بإصرار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"