عادي
الوجود ظاهرة جمالية

«ديوان نيتشه».. الفلسفة قصيدة تتأمل العالم

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود
لم يهتم الفيلسوف الألماني الكبير فريدريش نيتشه «1844 – 1900»، بالشعر فقط، بل مارسه وألف العديد من القصائد، وقدّم الشعر في كثير من الأحيان على الفلسفة، في المقدرة على التأمل وإنتاج المعنى، فقد كان نيتشه في الأصل باحثاً لغوياً وشاعراً وملحناً قبل أن يصبح فيلسوفاً، فهو يرى أن الشعر مجال حيوي للأفكار والتصورات والمواقف، ومن المفارقات أن كتابات الرجل في بداياته، كانت تُعامل من قبل الناشرين والنقاد معاملة النصوص الشعرية، بل وكان يحسبها البعض مسودات وأغاني.

وظف نيتشه اللغة الشعرية حتى في مؤلفات شديدة الأهمية، تلخص أفكاره الفلسفية مثل: «هكذا تكلم زرادشت»، ذلك الكتاب الذي أحدث دوياً هائلاً في عالم المفاهيم والتصورات، والذي نظر إليه الكثيرون كنص شعري، أو رواية تحتفي باللغة وجمالياتها، وهو الأمر الذي دفع نيتشه إلى القول إن لا أحد سيفهم ذلك المؤلف في عصره، خاصة من قبل الألمان الذين يهتمون بعالم الأفكار أكثر من الشعر، لكن كتاب «هكذا تكلم زرادشت»، لا يبرز كحالة نادرة في استخدام فيلسوف المطرقة للأسلوب الأدبي، لذلك اهتم دارسون وباحثون بالنزعة الشعرية التي تغلف العديد من نصوصه الفكرية مثل «إنساني مفرط في إنسانيته»، و«هذا هو الإنسان».

كتاب «ديوان نيتشه»، هو رحلة وسياحة في حياة الفيلسوف الكبير الشعرية والإبداعية، ويحتشد بقصائد ألفها في أوقات متفاوتة في حياته، في مرحلة الشباب، والنضج، والقصائد الأخيرة، و «أناشيد ديونيسوس»، فقد بدأ الرجل كتابة الشعر والشذرات باكراً، ولم يتخلَ عن ذلك الأمر حتى خلال الفترة التي داهمته فيها نوبات الجنون والهذيان قبيل موته بسنوات عدة؛ بمعنى أن الشعر كان رفيق المفكر الكبير في تلك الليالي المظلمة التي شهدت معاناة نفسية كبيرة، لقد بدأ في كتابة النصوص الإبداعية في فترة مشرقة من حياته حيث الصبا وأحلام الشباب، ثم عاد إليه في سنوات حالكة من عمره، لذلك نستطيع أن نقول إن الشعر أصيل في تكوينه النفسي.

1

والكتاب يلامس نقطة في غاية الأهمية، عندما يشير إلى أن فلسفة نيتشة القائمة على القوة، والتفرد، وإعلاء الذات، تنسجم تماماً مع الشعر، بل كانت تأملات فيلسوف المطرقة، دائماً ما تكتشف الروح الجمالية الكامنة في الأشياء والظواهر، لذلك نرى كثيراً أن فلسفته تهتم بتشييد الصور والمشاهد، وتعتمد على الالتقاط الخلاق المبدع، والواقع أن نيتشه ظل يعبر عن أفكاره وهواجسه بطريقة شاعرية ولا عجب في ذلك، فقد كان على الدوام يرى أن الوجود نفسه ظاهرة جمالية يتقدم الشعراء والفنانون لإبراز دلالاتها وغائيتها، بالتالي هو يكتشف في الشعر قوة خفية قادرة على التفسير والتحليل والنظر إلى ما وراء الأشياء والظواهر، بالتالي كان الكثير من مؤلفاته عبارة عن ملاحم شعرية على نسق الإلياذة والأوديسا للشاعر الإغريقي هوميروس، مع فارق أن مؤلفات نيتشه محملة ومحتشدة بالمعاني الفلسفية والفكرية.

والديوان يلقي الضوء كذلك على نقطة مهمة في علاقة نيتشه بالشعر؛ إذ إن الفيلسوف الكبير لا يتعامل مع اللغة بوصفها وسيلة للنقل والتواصل والإبداع فقط، بل هي أداة للتقصي والاكتشاف، وتعبير عن الذات ومعاناتها والوجود وتجلياته.

والكتاب لا يقتصر على الشذرات والأعمال الشعرية لنيتشه فقط، بل ومقاطع كتبت بأسلوبية أدبية من بعض مؤلفاته مثل: «ما وراء الخير والشر»، و«العلم المرح»، و«غسق الأوثان»، فمن الواضح أن الفيلسوف الكبير قد «استثقل»، الكتابة الفلسفية على النسق الأكاديمي الصارم، ولأنه يمتلك شخصية متمردة فقد أراد أن يخرج من العباءة المنهجية الأكاديمية نحو فضاءات منفتحة للفلسفة، وهذا ما دفعه نحو كتابة الشعر المنتج للمعنى تارة، وتوظيفه للغة الشعرية داخل نصوصه الفكرية الفلسفية في أحيان أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"