البحث العلمي ودوره المجتمعي

03:49 صباحا
قراءة 5 دقائق
عبدالجليل المرهون
ما الذي يُمثله البحث العلمي للأمم والشعوب؟ وما هي التحديات التي تواجهه في عصر الثورة الرقمية؟
أجل، لقد كتب الكثير عن قضية البحث العلمي، وهو موضوع يستحق الكثير من العناية والاهتمام، ذلك أن مكانة البحث العلمي من التقدم الحضاري للأمم تعد بمثابة القلب من الجسد . إذ لا تطوّر مدني أو عسكري دون تطوّر معرفي، ولا سبيل لنهضة معرفية دون بحث علمي جاد، محكم المواصفات والمعايير .
ولم يعد بالمقدور النظر إلى البحث العلمي، سواء التطبيقي منه أو النظري، باعتباره مجرد إضافة معززة للإنجاز البشري، بل هو شرط جوهري من شروطه . وهذا الأمر صحيح منذ أمد طويل، لكنه اليوم أكثر صحة ومنطقية، في ضوء النمط الجديد من التحديات، المتعددة المنابع، التي تواجه الأمم والشعوب .
إن البحث العلمي يُعد منطلقاً للتطوير الوطني والقومي وأداة لقياس التطوّر ذاته، ومن دونه تسير الأمم دون ضوء أو شعاع، أو لنقل دون إدراك لمكانتها وموقعها في مسيرة العصر . وحينها يقف التطوّر، وتغدو الأمة ماكثة في مؤخرة الركب .
والبحث العلمي ليس حاجة ملّحة للدول النامية دون المتقدمة أو الفقيرة دون الغنية، بل هو ضرورة لكافة الأمم والشعوب، ذلك أن التطوّر لا حدود له ولانهاية . وعلى الرغم من ذلك، فإن الدول الأقل نمواً تبدو حاجتها مضاعفة للبحث العلمي، من أجل أن تردم ما يمكن ردمه من فضاء الفجوة الحضارية التي تفصلها عن الأمم المتقدمة .
وعلى سبيل المثال، فإن توطين التكنولوجيا لا يمكن تحقيقه دون مختبرات ومؤسسات بحثية ذات أنظمة متطوّرة، وإمكانات كبيرة، وتمويل واف . كذلك، فإن الأمن الغذائي، الذي هو جزء أصيل من الأمن القومي للدول، لا يمكن إنجازه دون سلسلة من مراكز الأبحاث المتخصصة في التربة والمياه والمناخ والنباتات والتصنيع الغذائي واقتصادات الغذاء . وفي ميدان العلوم الاجتماعية لا يمكن، على سبيل المثال، بلورة سياسة خارجية قادرة على خدمة المصالح الوطنية والقومية دون مجموعة من مراكز الأبحاث المتخصصة في القانون الدولي والعلاقات الدولية، وقضايا الجيوبوليتيك، وأنتروبولوجيا الشعوب، والاقتصاد الدولي .
وعلى الرغم من ذلك، فإن البحث العلمي ذاته يواجه اليوم طيفاً واسعاً من التحديات التي فرضها عصر الثورة الرقمية .
وبداية قد يتبادر لبعضهم أن مهنة البحث العلمي أضحت بفعل هذا المتغيّر أقل صعوبة مما كانت عليه بالأمس القريب .
هذا الاعتقاد يبدو مشروعاً بوجه عام . بيد أن للصورة وجهاً آخر .
نحن اليوم أمام وفرة متعاظمة في المعلومات . ولدينا وسائط رقمية لم تكن متاحة في يوم من الأيام . وقد باتت تكلفة الوصول إلى ذلك في متناول الأغلبية العظمى من الناس، ناهيك عن مجتمع الباحثين .
ماذا يعني هذا المتغيّر القيّمي / المادي المزدوج؟
ثمة قضايا كثيرة يشير إليها هذا المتغيّر ويدلل عليها .
أولى هذه القضايا هي إن وفرة المعلومات لا تعني بالضرورة وفرة في المعطيات، ففي ضوء الكم الكبير للمصادر وكثرة تنوعها، من الطبيعي أن يجد الباحث نفسه أمام معلومات ينسخ بعضها الآخر، أي ينفيه ويلغي صحته .
كذلك، فإن تعاظم مصادر المعلومات يفرض على الباحث الذهاب إلى أكبر قدر ممكن منها، أو إلى الحد الأدنى المجزي .
نحن هنا أمام تحد جديد يواجه الباحثين، ويفرض عليهم مضاعفة الوقت اللازم لجمع البيانات وتنقيحها وتصنيفها . وهم إما أن يفعلوا ذلك، وإما أن يغامروا بفقدان مصداقيتهم العلمية .
ليس هذا وحسب، بل إن الثورة الرقمية قد فرضت، في السياق ذاته، تحدياً ذا صلة بالقدرة على مواكبة التدفق السريع للمعلومات والبيانات . والجديد من المعطيات قد ينسف سابقه، أو يجعله غير ذي مغزى بالمعنى العلمي . وإذا كان من السهل، حتى الأمس القريب، وضع جداول زمنية مريحة لإنجاز الأبحاث، فإن الأمر لم يعد كذلك اليوم، فإما أن ينجز الباحث بحثه خلال فترة زمنية محكمة، أو يخرج هذا البحث للناس وقد تجاوزه الزمن .
على صعيد آخر، تبدو مناهج البحث العلمي، في أغلبها الأعم، بحاجة إلى قدر من التطويع، لتغدو منسجمة ومتغيّر الثورة الرقمية . وينطبق هذا الأمر، بوجه خاص، على كل من البحوث السياسية والاجتماعية والأنتروبولوجية .
إن متغيّر الثورة الرقمية قد أولد العديد من المتغيّرات التابعة، التي أكدت، في مجموعها وسياقها الناظم، واقع القرية الكونية، بما عنته من ترابط وثيق بين مصالح الدول، وتقلّص لمبدأ السيادة الوطنية، وتراجع لمفاهيم الجيوبوليتيك، على النحو الذي حددته، قبل عقود، المدرسة الألمانية .
كذلك، عنت القرية الكونية تداخلاً وثيقاً بين ثقافات الشعوب . وقادت، في السياق ذاته، باتجاه تبلوّر أنتروبولوجيا فوق وطنية . وهي قد أولدت في المنتهى بنية جديدة لعلم الاجتماع السياسي .
هذا المتغيّر، في سياقه الكلي، جعل من غير المنطقي التقوقع حول المناهج الراهنة للبحوث السياسية والاجتماعية .
وبالطبع، هذه ليست دعوة لنسف ما هو قائم، بل لتطويع مناهج وأدوات البحث العلمي لتنسجم مع الواقع الكوني الجديد، لأن هذا الواقع لا يُمكن تحليله بأدوات نبتت من رحم واقع بات جزءاً من الماضي . أو تغيّرت، في الحد الأدنى، الكثير من معالمه .
على صعيد ثالث، عززت الثورة الرقمية تحدياً تقليدياً يواجه مجتمع الباحثين، يرتبط بقدرة الباحث على تقديم ما هو جديد، فالجديد اليوم ليس هو الجديد في إطار وطني، بل كوني .
لقد أولدت الثورة الرقمية المجتمع العالمي المفتوح . وأولدت في القلب منه نخبة عالمية، تتواصل فيما بينها، ويقرأ كل منها للآخر .
كان الباحث في يوم مضى، يخرج بفكرة معينة، ويرى أنها جديدة، لأن أحداً في بلاده أو جوارها لم يسبقه إليها . كما لم يسمع بها هو نفسه من قبل . وكان ذلك يُمثل مبرراً لطرح هذه الفكرة .
أما اليوم، فقد طويت المسافات لمصلحة القرية الكونية . وبات الناس في كل مكان يقرؤون لأي إنسان على وجه الأرض، ليس من صالات القراءة وحسب، بل من غرف النوم أيضاً .
هنا، بات لزاماً على الباحث أن يكون مطلعاً، في إطار اختصاصه، على كل ما هو جديد على صعيد كوني . على الأقل في الحد الأدنى المجزي، الذي يطمئن من خلاله بأنه لا يكرر ما قاله الآخرون، ولا يُعيد إنتاج العجلة . وهو إن لم يفعل ذلك، فسيكون معزولاً عن العلم، لا عن العالم وحسب . ويفقد بالضرورة صفته كباحث متخصص .
وخلاصة، فإن البحث العلمي كان ولايزال ضرورة من ضرورات تقدم الأمم ونهوضها، وفي حين فرضت الثورة الرقمية أنماطاً جديدة من التحديات على ميدان البحث العلمي، فإنها عززت، في الوقت ذاته، من مكانة هذا الحقل في حسابات الأمم والشعوب .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"