كلهم راحوا

01:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
كان يتحدث قبل يوم واحد من رحيل أحد ركائز هذه الأمة وقادتها الذين حاولوا بكل قوة أن يقفوا في وجه متغيرات وعواصف تسعى إلى تقويض وإضعاف حاضر الأمة، كان يتحدث عن رحيل الكبار في مجالات عديدة، ومر على الثقافة والفن والشعر وعلى أولئك الذين رسخوا عطاءهم الكبير في ذاكرة ووجدان الأمة من خلال عطائهم الذي لن تمحوه رياح التغريب ولا عوامل التشويه للهوية العربية وحضارتها المتجذرة في عمق التاريخ، وتقف على أرض صلبة لا ينزلق عليها من يؤمن بها وبأهميتها في الحفاظ على أساس الحاضر وعمود المستقبل، وقال صاحبي وهو في حالة بكاء طللي طويل "كلهم راحوا" وأرى أن الحاضر ضبابي ولا تجد فيه من يسد تلك الخانة، ولا أعتقد أن الدنيا ستنجب مثلهم .
كان يقول هذا الكلام بحرقة وتشاؤم من الحاضر الذي يراه أقل بكثير من العصر الذهبي الذي أفرز الكثير من الطاقات وخلد العديد من العطاءات والأصوات الجميلة التي كان لها الأثر الفاعل في الثقافة الإنسانية والشعر والفن العربي، وردد بعضاً من تلك الأسماء، وذكرني وقتها بتلك القصيدة الرائعة التي أبدع غنائيتها مهندس الكلمة النبطية الأمير بدر بن عبدالمحسن والتي لخص فيها تجربة يشترك معه في مضمونها كثير من الناس، وما أروعه وهو يقول: "ماهو ابيدي هذا الضياع، تعبت انا لا ادلهمْ، راحوا بلا كلمة وداع، راحوا ونسوني كلهم، أرجوك لاتترددي، كانك تحبين . . ابعدي، روحي قبل لا قول . . لا تفارقيني" بينما كنت أتذكر هذه الكلمات كان صديقي يتحسر على جيل تجلى بالكبار الثقال كما قال وذهب معهم الجمال، ويردد جزءا من نزارية رائعة تقول: بصرتُ . . ونجمت كثيراً، لكنّي لم أقرأ أبداً فنجاناً يشبهُ فنجانك، لم أعرف أبداً يا ولدي . . أحزاناً تشبهُ أحزانك، مقدُورُكَ . . أن تمشي أبداً في الحُب . . على حد الخنجر، وتَظل وحيداً كالأصداف، وتظل حزيناً كالصفصاف .
وإذا كانت الأيام الماضية حافلة بالأسماء الجميلة في حياتنا في مجالات مختلفة من مجالات العلم والأدب والشعر والفن مثل طه حسين، والعقاد، وشوقي، والجواهري، والسياب، والبردوني، ونزار ودرويش، فإن أمة منذ عصر الجاهلية استمرت في إنجاب الكبار لن تعقم عن الإتيان بغيرهم، وكما يقال "لكل زمان دولة ورجال" وقد نرى في فترة من الفترات أن هناك أسماء شابة لا تصل إلى مستوى أولئك، لكن الصغير مع الوقت يكبر، ولم يصل رواد تلك الفنون إلى ذروة المجد بين ليلة وضحاها، إنما كان وصولهم نتيجة مكابدة وتعب وسهر ومحاولات وتجريب وعزيمة وإصرار، وبكل تأكيد فإن البعض واجه مطبات بشرية وجبال من الإحباطات من أجل أن يترك ما يؤمن به، ومن واصل منهم وعزم على تخطي كل العراقيل استطاع بعد فترة من الزمن أن يسجل له حضوراً واضحاً، وساعده على الوصول أولئك الذين يؤمنون بتعاقب الأجيال، ويرون مصلحة الأمة والأدب والفن فوق مصالحهم، وأن ثقتهم بأنفسهم وبما يقدمون تجعلهم يفتحون الطريق لغيرهم ويمهدونه لهم، ويشاركونهم في الجلوس بجانبهم والحضور معهم، وكلما كان هناك معاناة حقيقية تفجر الإبداع وسخر الله لها من الوسائل ما يجعلها تصل إلى القلوب، كلما كبر إبداع صاحب هذه المعاناة، وهي أيام يداولها الله بين الناس، ومع أن الفقد مؤلم كثيراً خصوصاً عندما يرحل أولئك الذين خدموا أمتهم بشرف، فإن الترحم عليهم وذكر أفضالهم والتأسي بأفعالهم الكريمة أجدى من التباكي والانكسار ورؤية المستقبل من خلال مرآة مغبشة تبقينا خلفها في ظلام اليأس والحسرة ونحن نردد ما قاله البدر: الليله برد . . وفي الطريق جبال، أرمي عيوني فوق كتفك شال، واسري أماني الليل، يا آخر أمل قنديل، يضوي عتم روحي . . تأخر الوقت، حبيبتي روحي، ما دام به وقت، حبيبتي روحي، كلهم راحوا .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"