أزمة جديدة ينقسم حيالها الاتحاد الأوروبي

02:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

ما كادت تنتهي (مؤقتاً) الأزمة اليونانية التي هددت وجود أثينا في منطقة اليورو، ومعها مستقبل هذه الأخيرة، حتى وجدت أوروبا نفسها في مواجهة أزمة جديدة تشكل تحدياً جديداً لوحدتها وتماسكها: أزمة المهاجرين وهي الأسوأ من نوعها في أوروبا منذ العام ١٩٤٥. لقد بدأ تدفق اللاجئين عملياً إلى أوروبا مع «الربيع العربي» في العام ٢٠١١ وراح يتفاقم مع التطورات الخطرة التي عصفت بدول هذا الربيع.
ومن الواضح أن الأوروبيين الذين تعاملوا مع تدفق أعداد محدودة إلى حد ما من المهاجرين واللاجئين في السنوات الأخيرة، لم يستعدوا لإمكانية مواجهة دفق خارج عن قدرتهم على السيطرة. وهكذا يبدو الاسترجال سيد الموقف كما التردد والانقسام، فالأوروبيون يعلنون شيئاً اليوم وينفذون عكسه في اليوم التالي، كما يعجزون عن اتخاذ موقف موحد، وقد طفت على السطح وبصورة معيبة عنصرية بعضهم و«إسلاموفوبياهم».
انقسم الأوروبيون، من مثقفين وسياسيين ورأي عام، حيال موجات الهجرة هذه التي تغطي اليوم صفحات الإعلام العالمي بأشكاله المتنوعة. ويبدو أن صورة الطفل الغريق إيان الكردي قد ساهمت في تغيير توجهات وسياسات أوروبية حيال مسألة الهجرة. فقد تزايد عدد المؤيدين لاستقبال اللاجئين بشكل ملحوظ، حتى أن تظاهرات قامت في لندن وكوبنهاغن لدفع الحكومات في هذا الاتجاه.
يقول وزير خارجية لوكسمبورغ إن من واجب الأوروبيين تحمل جزء من بؤس هذا العالم، وإن استقبال بعض اللاجئين هو واجب أخلاقي وإنساني لا يمكن التغاضي عنه. وفي رأي الفيلسوف الألماني هابرماس فإن «الثرثرات حول موضوع القيم» لا طائل منها، فاللجوء السياسي هو قبل كل شيء حق أساسي قبل أن يكون واجباً. ويجب احترام هذا الحق من قبل الشعب كله. وبدوره دعا الفيلسوف السلوفيني سلافوج زيزك إلى استقبال اللاجئين والانتهاء من سياسة الأسلاك الشائكة والحواجز «لأن الهجرات الواسعة الكبرى هي مستقبلنا» كما يقول، مضيفاً بأن على اللاجئين في المقابل احترام القوانين والمعايير الاجتماعية السائدة في الدول الأوروبية. ومن جهته دعا وزير العدل الفرنسي الأسبق روبير بادنتر إلى تسهيل وتبسيط إجراءات دخول طالبي اللجوء إلى سوق العمل. وبدوره وافق رئيس الحكومة الإسبانية المحافظ ماريانو راجو على استقبال نحو ١٥ ألف لاجئ كما طلبت المفوضية، وقال إنه فخور بتضامن الأسبان حيال مآسي اللاجئين، رغم أن وزير داخليته جورج فرنانديز دياز حذر من أن يكون هناك عناصر من «داعش» قد اندسوا بين طالبي اللجوء. إيرلندا أيضاً من المتعاونين في مسألة اللجوء، حيث استقبلت ثلاثة آلاف لاجئ وهو عدد مرشح للتزايد بفعل لمْ الشمل العائلي. وقد أعلن جوزف ستيغليتز الاقتصادي الأمريكي الحائز جائزة نوبل، في مقابلة مع يومية «داي ولت» الألمانية بأن أنجيلا ميركل على حق في انفتاحها على اللاجئين، ذلك أن هؤلاء قد يساهمون في إنقاذ ألمانيا من أن تغدو كاليابان التي تعاني خللاً ديموغرافياً انتهى بإعاقة تقدمها الاقتصادي، كما يمكن لألمانيا أن تستفيد منهم على المستوى الجيوستراتيجي أيضاً إذا نجحت في دمجهم في نسيجها الاجتماعي.
لكن في المقابل هناك من يرتئي غير ذلك. سلوفاكيا مثلاً لا تود استقبال إلا مسيحيين، وقد قامت تظاهرات في براتيسلافا ضد استقبال اللاجئين المسلمين. وسلوفاكيا هي من دول «الفيزغراد»، في أوروبا الوسطى، التي ترفض مقترحات بروكسل الخاصة بنظام حصص ملزم تتقاسم بموجبه الدول الأوروبية أعداد اللاجئين، بحسب عدد سكان كل بلد وناتجه الداخلي الإجمالي. وقد ندد الرئيس البولوني اندرجيز دودا بما سماه دكتاتورية المفوضية الأوروبية، في حين اعتبر رئيس الوزراء السلوفاكي روبير فيكو أن نظام الحصص الملزم هو تعدٍّ على سيادة بلاده.
للتذكير فقد تم اقتراح نظام الحصص في الربيع الماضي، وأعيد النظر فيه في بداية الشهر الجاري، نظراً لتزايد عدد اللاجئين الذين دخلوا القارة العجوز. وهذا النظام، في الواقع،لا يكبل دول الفيزغراد، إذ على سلوفاكيا أن تستقبل بموجبه ١٥٠٠ لاجئ(عدد سكانها ٥،٤ مليون نسمة)، وتشيكيا أقل من ثلاثة آلاف لاجئ (سكانها ١٠،٥ مليون)، وبولونيا ٩٢٨٧ لاجئاً (سكانها ٣٨،٥ مليون). وقد تم إعفاء هنغاريا المناهضة لهذا النظام والتي عبر أراضيها ١٨٠ألف لاجئ منذ بداية العام.
ويفسر مراقبون موقف «الفيزغراد» هذا بالأسباب الداخلية. فبولونيا تستعد لإجراء انتخابات في ٢٥ نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والحكومة تحاول الظهور بمظهر المدافع الشرس عن المصلحة الوطنية. وفي هنغاريا اعتاد رئيس الوزراء اليميني فكتور أوربان التشدد وانتقاد قرارات بروكسل بغية الظهور بمظهر المدافع العنيد عن السيادة المجرية. كما أن ثمة مخاوف من الإسلام والمسلمين في صفوف الرأي العام، الأمر الذي يشرح شعار «الإسلام هو موت أوروبا» الذي رفعه المتظاهرون في فرصوفيا في ١٢ سبتمبر/أيلول الحالي. وهذا الخوف من الإسلام يعود إلى طبيعة المجتمع البولوني غير المتنوع دينياً وعرقياً والذي يفتقر إلى التجربة، بحسب بيوتر بوراس مدير المكتب البولوني للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، والذي يضيف بأن «بولونيا بلد أبيض وكاثوليكي مئة في المئة».
والأمر نفسه ينطبق تقريباً على دول «الفيزغراد» الأخرى، والتي تشترك في غياب العطف والتضامن مع اللاجئين، كما يبدو من تعامل الشرطة الفظ معهم. وهذه مفارقة في بلدان كان الآلاف من سكانها، خلال الحقبة الشيوعية، يسعون للهرب إلى أوروبا الغربية التي كانت تستقبلهم وتؤمن لهم أسباب العيش الكريم. وهذا ما يعبر عنه البروفيسور بولديزار ناغي، من جامعة أوروبا الوسطى المتخصص بحقوق اللاجئين: «عدة مرات قام أجدادنا بالهرب والاستفادة من ضيافة أمم أخرى... لقد استدانوا من بنك التاريخ وعلينا اليوم سداد هذا الدين».
لقد قامت بودابست بإغلاق حدودها أمام سيل اللاجئين، وما تفعله عموماً حيال هذه المشكلة «يتناقض مع القيم الأوروبية»، على ما يقول رئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود يونكر الذي يضيف بأن «حجم تدفقات اللاجئين والمهاجرين لا تبلغ سوى ٠،١١ من سكان الاتحاد الأوروبي الذين يزيدون على ٥٠٠ مليون نسمة».
وقد وجد اليمين المتطرف في أوروبا مناسبة للتعبير عن عنصريته، فمارين لوبان،على سبيل المثال، قالت إن «على عمدة باريس أن ترتدي الحجاب لدى استقبالها اللاجئين». وهناك مطالبات بإعادة النظر باتفاقات شينغن لاسيما بعد أن أعادت بعض الدول، ومنها ألمانيا، الرقابة على حدودها، وإعادة البحث في اتفاقات أزالت الحدود بين ست وعشرين دولة أوروبية هو تراجع في مسيرة الوحدة الأوروبية التي لم تتعاف بعد من تداعيات أزمة اليورو والعجز اليوناني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"