عقوبات اقتصادية تاريخية ذات أثر متعاكس

21:21 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

منذ أن بدأت روسيا يوم 24 فبراير/ شباط 2022 ما سمّته بعمليتها الخاصة في أوكرانيا، وسمّته دول الغرب غزواً، تهاطلت العقوبات الأمريكية والأوروبية الاقتصادية والرياضية والثقافية على روسيا. فلا يكاد يمر يوم من دون أن تعلن واشنطن والعواصم الأوروبية عن حزمة جديدة من هذه العقوبات التي شملت قطاعات التجارة والاستثمار والقطاع المالي والقطاع المصرفي.

قد يكون مبكراً الحكم على مفاعيل وتبعات هذه العقوبات على الأطراف المباشرة ذات العلاقة بها: روسيا وأوروبا والولايات المتحدة. لكن حجم ونطاق هذه العقوبات غير المسبوق في التاريخ، قد أرسلا أول إنذاراتهما ليس لأطرافها المباشرة فقط، وإنما لبقية أعضاء المنظومة العالمية. فقد سجلت أسعار الطاقة والغذاء ارتفاعات قياسية (كمثال شمل ذلك النفط والألمنيوم والنيكل).

 ولا ننسى أن الاقتصاد العالمي يواجه تحدي صعود التضخم إلى مستويات لم تسجل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، ومن المؤكد أن هذه العاصفة من العقوبات، ستضيف جرعة تضخمية وتفاقم مأزق البنوك المركزية التي تضع التضخم على رأس أولوياتها.

 وكان التأثير الفوري في الاقتصاد الروسي في الأيام الأولى هو الانخفاض الحاد في أسواق الأسهم والأصول المالية. حيث بدأ المستثمرون بتسييل أصولهم، واتخاذ جانب الحيطة انتظاراً للتطورات اللاحقة. علماً بأن انكماش أسعار الأصول المالية هو مجرد قيمة ورقية ولا يؤثر كثيراً في المستهلك الروسي، أو على الاقتصاد العام. إنما عادة ما يكون الانهيار الكبير للأسواق المالية مصحوباً بانخفاض في قيمة عملة الدولة، ولم يكن الروبل الروسي استثناء، حيث تراجعت قيمته. 

وتراجُع قيمة العملة يعني أن الدولة يجب أن تدفع أكثر مقابل وارداتها السلعية المستقبلية. ولتعويض تأثير التضخم، قد تفرض روسيا رقابة على الأسعار للحد من تأثير ذلك في المستهلكين، في السلع الاستهلاكية الأساسية. ويمكن للبنك المركزي اتخاذ خطوات لوقف تراجع العملة. وقد رفع البنك المركزي الروسي، بالفعل، سعر الفائدة إلى 20%. ولسوف تستعين روسيا بقنوات تجارية بديلة، وفي مقدمتها القناة الصينية، من أجل ضمان تدفق السلع الرئيسية إلى أسواقها.

وإذا ما شملت العقوبات مبيعات النفط الروسي التي تشكل نحو 15% من المعروض النفطي العالمي، سيؤدي ذلك إلى اضطراب كبير في أسواق النفط وزيادة تاريخية محتملة في أسعار النفط. لهذا السبب كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مترددين في استهداف شحنات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا. 

وبالنسبة إلى خط أنابيب «نورد ستريم 2»، فهو لم يغلق وإنما تم تعليقه. فضلاً عن أنه لم يفتح أصلاً لكي يُغلق. فألمانيا تعتمد بنسبة تفوق 50% على إمداداتها من الغاز الروسي الذي يصلها عبر 7 خطوط أنابيب تتدفق عبر أوكرانيا إلى جنوب شرق أوروبا، ومن هناك إلى ألمانيا. إضافة إلى خطوط أنابيب الغاز الروسية المارة عبر تركيا إلى أوروبا، وخط «نورد ستريم 1» الذي ينقل الغاز من مدينة فيبورج الروسية إلى مدينة جرايفسفالد الألمانية. كما أن أوروبا بمجملها تحصل على 40% من وارداتها الغازية من هذه الخطوط. وقطع هذه الإمدادات يعني انهيار محتمل للصناعات في الاتحاد الأوروبي. 

وتعمل هذه الأنابيب بكامل طاقتها الآن، ما يعني أن روسيا ستستمر في كسب عملات أجنبية كبيرة من مبيعات الغاز إلى أوروبا. وقيل الكثير عن احتمال حلول غازات بعض الدول، مثل الغاز الأمريكي والغاز القطري والغاز الأذري المسال، محل الغاز الروسي الذي تتزود به أوروبا. لكن هذا هدف بعيد المدى، حيث تفتقر ألمانيا إلى مرافق استقبال الغاز الطبيعي المسال التي يستغرق بناؤها نحو خمس سنوات. فضلاً عن أن قطر وغيرها ستحتاج إلى عامين على الأقل، لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز. وتحاول الولايات المتحدة منذ سنوات الضغط على أوروبا لشراء الغاز الطبيعي الأمريكي بدلاً من الغاز الروسي. لكن كلفته الباهظة التي تزيد بنسبة 30% عن سعر الغاز الروسي بسبب تكاليف النقل وتكاليف تسييله أولاً في بلد المنشأ ومن ثم إعادته إلى حالته الغازية في بلد الاستيراد، حالت دون ذلك.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"