السياسة وتطور المجتمع

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

الحديث في السياسة يختلف عن الحديث عن السياسة، فالأول يتناول العلاقة بين الحاكم وإدارة المجتمعات والأفراد، والعلاقات بين الدول، والثاني يتناول الفكر السياسي وأنظمة الحكم وأساليب تحقيق النظام لأهدافه. وباختصار يتحدث في علم السياسة والتنظير. والحديث الأول متجدّد، نظراً للمستجدات والمتغيرات في التحالفات الداخلية والخارجية، أما الثاني فنادراً ما نعثر على نظرية جديدة غير تلك التي ترد في مناهج التعليم العالي، على الرغم من التغيير الذي طرأ على الحاكم والشعب، بمعنى التطور في المفاهيم والرؤى والعلوم، على الرغم من دخول العالم عصور الثورات الصناعية والثقافية والفكرية والتكنولوجية.

وهذا التغيير لم يواكبه تحديث مفردات علم السياسة، ولا تعريف السياسة (politics)، ولم يتم ربطه بمستوى الوعي الشعبي أو لدى الحاكم. ونعتقد أن الحاكم الذي لا يأخذ في عين الاعتبار، تطور المستوى التعليمي التخصصي والعام، وتطور الوعي الفردي والجمعي لشعبه، ولا ينظر إلى الحراك الفكري والاجتماعي الذي صنعه الإعلام الجديد، أو ما سُمّي بوسائل التواصل الاجتماعي، والنقلة الكبيرة في الإدراك الشعبي، سيجد صعوبة في إدارة الدولة، بصفتها مكونة من الشعب والحكومة.

نحن نعيش الآن في عصر انفجار المعرفة، وثورة تكنولوجيا المعلومات، وعصر الذكاء الاصطناعي، عصر الرحلات نحو الفضاء، ولا يزال الأكاديميون يتعاملون مع مصطلح السياسة كما لو أننا في عصر الإمبراطورية الرومانية وشرائع الإسكندر الكبير، وأنظمة قرقوش، ويتحدثون عن السائس والمسوس، وعن فرض إرادة الحاكم على الشعب بالوسائل كافة، وقد لا يعلمون أن العلاقة بين الحاكم والشعب قد تغيّرت وتبدّلت، والمسافة التي كانت تفصل بين الجهتين، باتت مزروعة بالكلمة الطيبة والمحبة وعصف الأفكار والمشاركة في صناعة القرار، أي أن الشعب أصبح شريكاً في الحكم خلافاً لكافة التعريفات للسياسة.

أعتقد أن الحديث عن السياسة يجب أن يتعرّض للتعديل؛ بحيث يستفيد من انتقال المجتمعات من حالة الظلام إلى حالة النور، ومن حالة البؤس إلى حالة الرفاهية، ومن الجهل إلى العلم، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، فإذا روعي هذا المشهد سيتوقف الخلط بين الحديث عن السياسة وأنظمة الحكم، أو الخلط بين السياسة وأساليب إدارة الحشود البشرية، وسيتوقف الخلط بين السياسة والدبلوماسية، لتحل محل كل ذلك تعريفات حديثة، كأن تكون السياسة هي فن إدارة الكفاءات والقدرات، أي فن إدارة الذكاء وليس إدارة الأذكياء، وهي الاستثمار في الوعي والمنجز العلمي والحضاري قبل الاستثمار في أصحاب الوعي والعلماء، شأنه شأن الاستثمار في الطب وليس الأطباء، وبمعنى آخر، تصبح السياسة فن إدارة المحتوى وليس القالب في عصر مجتمع المعرفة.

ويحضر هنا مفهوم الجوهر وتجلياته والفكر وتمظهراته والوعي ومستوياته، وجميعها مؤشرات للمجتمع الذي حقّق تنمية نوعية أخرجته من معيار الكم إلى معيار الكيف.

من الطبيعي ألا ينطبق الطرح السابق على كل المجتمعات؛ بل إنه لا ينطبق على نسبة كبيرة منها، وينحصر في المجتمعات التي حققت استقراراً في تقديم الخدمات وتطوراً في إنشاء البنى التحتية، وتأهيل الإنسان للحياة في المجتمع المعاصر يدخل في إطار تحديث البنى التحتية والعناية بها، بصفته هدف كل تنمية ووسيلتها. وبذلك لا تنفصل السياسة عن التنمية العميقة التي تجعل التعريف يقترب من التماهي بين الحاكم والشعب، وقد يأتي يوم يتغير فيه استخدام مصطلح الحاكم وكذلك الشعب بما يناسب التطور المعرفي للمجتمعات.

وإذا كانت ثمة خلاصة جريئة للطرح، نقول: إن الشعب هو من يحدد طريقة قيادته، عن طريق وعيه وثقافته وتعليمه، وهو الذي يرسم العلاقة مع القائد من خلال حضارته وأهليته للعيش في مجتمع مدني يسوده السلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4evrw6me

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"