تموز المتميز عن كل الشهور

02:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

من بين كل شهور العام يتميز شهر تموز بأنه يصلح لأن يكون شهر إيقاظ ذاكرة الأمة من جهة وشهر تحفيز لها. ففي هذا الشهر جرت أحداث بالغة الأهمية في حياة الأمة العربية تستحق استرجاعها كل سنة من أجل استيعاب دروسها وفهم عِبرها، وأحداث في حياة الآخرين تستأهل التمعن في معانيها الإنسانية الكبرى.

في وطننا العربي هناك ثلاثة أحداث لافتة جرت في مصر ولبنان والعراق، لا تستطيع الأجيال تلو الأجيال نسيانها من دون أن ترتكب جريمة معنوية بحق تاريخ ومستقبل أمتها.

هناك ثورة تموز الناصرية في مصر التي لم تكن حدثاً ثورياً جذرياً في حياة قطر مصر بمقدار ما كانت انقلاباً فكرياً سياسياً في حياة الأمة العربية عبر أرجاء كل وطنها. لقد ولدت الناصرية كثورة لتنتهي إلى أن تكون عقيدة. ولم تتكون تلك العقيدة من خلال الفكر وإنما تكونت من خلال الفعل. لقد كان قلب تلك العقيدة هو تحقيق الوحدة العربية ورفعت كل الشعارات الأخرى لتخدم ذلك الهدف، فالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبرى في مصر هي من أجل بناء الإقليم القاعدة (مصر) لتحقق وحدة الأمة. والوقوف مع كل ثورة عربية تحررية في كل قطر عربي هو من أجل أن تكون تلك الأقطار مستقلة الإرادة السياسية وقابلة لاتخاذ القرارات الوحدوية.

وإذاعة صوت العرب هي لنشر الوعي الوحدوي التحرري وتجييش الشعوب العربية للنضال من أجل الوحدة. ومحاربة الصهيونية ومحاولة دحرها هما من أجل إزالة عقبة توحيد المشرق العربي مع المغرب العربي. وبالطبع، لقد كانت هناك أهداف فرعية أخرى كثيرة، لكن ظل الهاجس المحوري المفصلي هو الخطوات الوئيدة نحو الوحدة العربية.

لقد أخفقت تلك الثورة في تحقيق هدف الوحدة، بل وانتكست بانفراط الوحدة المصرية - السورية، لكنها كونت حلماً ملأ السماء العربية كلها وتجذر في فكر ووجدان ملايين العرب. من هنا أهمية استعادة حلم الأمة ذاك سنوياً لأخذ الدروس والعبر ولإجراء إعادة المحاولة بأساليب مختلفة وبمناهج مختلفة وذلك من أجل ذلك الهدف الذي يجب أن لا يموت أو يُنسى: هدف الوحدة العربية، طال الزمن أم قصر.

هناك ثانياً الانتصار التموزي المجيد للمقاومة اللبنانية في الجنوب اللبناني. وهو انتصار أكد في الواقع العربي أنه عندما تكون المواجهة بين الصهيونية وبين الشعب العربي مباشرة ومن دون وساطة من مثل جيوش لا تريد أن تحارب أو قيادات متخاذلة خائفة، فإن النصر لا يمكن إلا أن يكون للشعب العربي. وهو انتصار يجب أن تستعاد ملاحم ذكراه البطولية في كل عام من أجل التذكير بأن الوسائل السياسية والدبلوماسية التي لا تستند إلى وجود قوي وتنظيمات مقاومة فاعلة وحرة وقادرة لن تكون إلا وسائل عبثية تجر الأمة إلى وحول الانكسارات والمزيد من الهزائم والتنازلات، كما نراه ماثلاً اليوم أمامنا في بكائية المفاوضات مع العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة.

هناك ثالثاً الثورة التموزية العراقية التي بدأت كثورة قومية شعبية تقدمية وانتهت بارتكاب أخطاء وخطايا سهلت للغزاة وللصهاينة أن يتآمروا عليها ويجهزوا على أهدافها ويستبيحوا وطنها.

هناك رابعاً الثورة الفرنسية التي استطاعت أن تحقق ما لم تستطع تحقيقه الثورات العربية. وهي ثورة ما كان لها أن تنجح لولا انطلاقها من فكر بالغ التقدمية والإنسانية، ثم تفعيلها لذلك الفكر في أرض الواقع من خلال الدماء والدموع وطوفان الجماهير، ثم تعديل ومراجعة زلاَّتها وعدم قبول العيش مع انتكاساتها وتراجعاتها. وهي ثورة يجب استعادة قصصها في كل عام لتحفيز الذين يعتقدون بأن الثورات الكبرى هي رحلات نُزهٍ سياسية لا رحلات عذابات ألف محاولة ومحاولة.

شهر تموز يجب أن يكون شهر فهم وتجديد أحلام وتهيُّؤ للفعل القادم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"