التواصل الاجتماعي كأداة استغلال

04:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

موضوع وسائل ومحتويات وتلاعبات وأخطار التواصل الاجتماعي أصبح أحد مواضيع الساعة بامتياز. قم بزيارة المكتبات في عواصم الغرب لترى عشرات عناوين الكتب، واستمع لبرامج مستجدات تكنولوجيا التواصل الإلكتروني اليومية عبر محطات الإذاعات الغربية الناطقة باللغة العربية، لتعرف أن موضوع التواصل الاجتماعي قد أصبح حديث الساعة الملتهب، المختلف حول فوائده وأضراره حتى في أوطان الذين اخترعوا أدواته، وبرامجه.
هناك كتابات وأحاديث الهلع والمبالغة من قبل البعض، وهناك نتائج الدراسات والأبحاث الموضوعية المقلقة من قبل البعض الآخر. ما يهمنا هو الصورة الثانية العلمية الموضوعية المنذرة بالأخطار القادمة، التي يجب إيصالها إلى وعي وعقول شابات وشباب أمة العرب.
نذكّر بأن أغلب الأوائل، من الذين اخترعوا وسائل الاتصالات الإلكترونية ووضعوا البرامج التي ستنظم عملية وسائل الاتصالات تلك، أرادوها أن تحقق هدفين: جعل المعلومات ونتائج المعرفة متيسرة لكل البشر، من جهة، وتيسير وتشجيع التواصل والتفاعل بتسامح فيما بين الأفراد والجماعات، من جهة أخرى. وتحقيق الهدفين كان سيتم فيما بين جهتين فقط: طالب ومطلوب، مرسل ومتلق، فرد أو جماعة، في مقابل فرد أو جماعة.
ولم يكن في ذهن أولئك الأوائل إقحام جهة ثالثة لنفسها، لكي تخلق برامج ذهنية حسابية توجه وتتلاعب بذلك التواصل، والتفاعل الاجتماعي، وتقلب التواصل الاجتماعي في المحصلة إلى وسيلة لتكديس ثروات مالية هائلة في أيادي قلة جشعة بصورة، وأحجام، وسرعات لم يعرف التاريخ لها مثيلاً قط.
الجهة الثالثة تلك، بمسمياتها المختلفة، اختصرت موضوعاً إنسانياً، وحلماً مثالياً جميلاً في شعار هو: اجمع كل معلومة تفصيلية عن أفكار ومشاعر وميول المتواصلين والمتفاعلين، ثم استعملها من خلال برنامج لوجرتمي حسابي معقد وشديد الغموض لمعرفة المشترك فيما بين المتواصلين، ومن ثم قم بمحاولة تعديل تلك الأفكار والمشاعر والميول وتوجيهها الوجهة التي تريدها تلك الجهة الثالثة، حتى يسهل عليها تقديم المعلومات التي جمعتها وصنفتها بشأن الملايين من المتواصلين كبضاعة لمن يريد شراءها، أو استئجارها من أجل مصالح ترويجية تجارية، أواستخباراتية تجسسية، أو تلاعبات انتخابية لمصلحة هذه الجهة، أو تلك.
والنتيجة النهائية هي أن يقوم مستثمرو ومالكو تلك المنصات التواصلية الإلكترونية باستثمار بضعة ملايين من الدولارات في البداية لينتهوا، خلال فترة وجيزة قياسية، بجمع ثروات تقدّر بمئات المليارات.
إن تعديل التصرفات والسلوكات الحيوانية والبشرية ليس بالجديد. فقد بدأته وطوّرته العديد من مدارس علم النفس عبر القرنين الماضيين. وكان يستعمل في المختبرات والعيادات النفسية لدراسة، أو علاج أوضاع فردية. أما في عصرنا الحالي فإنه يستعمل على نطاق واسع ليطبّق على الملايين، من قبل برامج وأفراد يقبعون وراء ستائر المنصات التواصلية - التفاعلية التي يستعملها مليارات البشر من دون أن يشعر هؤلاء بأنهم يحركون كالدمى، من داخل حجرات مظلمة، ومن قبل أشباح لايعرفونهم.
إن الفضائح التي انفجرت مؤخراً في وجه العديد من المنصات التواصلية هي جزء صغير فقط من رأس كتلة الجليد التي تقبع داخل هذا المحيط الاستغلالي المرعب.
السؤال الأساسي: كيف تستطيع تلك المنصات للتواصل الاجتماعي القيام بكل ذلك؟
والجواب ببساطة هو من خلال البرنامج الحسابي - الذهني الذي ذكرناه من قبل. ما يهم البرنامج هو إبقاء الملايين مشدودة، ومدمنة على استعمال المنصة التي يخدمها.
على سبيل المثال: لو أن البرنامج لاحظ أن لديك ميولاً غاضبة نابعة من اصطفافات وتعصبات طائفية، أو قبلية، أو إيديولوجية، ما على البرنامج إلا أن يرسل لك الرسائل التي نشرها الغير، والتي تزيد من تأجيج ذلك الغضب، أو من جعلك تنغمس في صراعات، وعبثية الشتم والاستهزاء، حتى يقوم البرنامج من جديد بإرسال ما كتبته، أو قلته إلى من يخالفونك الرأي ليحتدم النقاش، أو إلى من يتفق معك لتتكون كتلة يتعاضد ويتواصل أفرادها من خلال استعمال المنصة. وهكذا يزداد عدد المستعملين للمنصة، وتكبر كمية المعلومات والملفات التي ستبيعها الشركة المالكة للمنصة لأية جهة راغبة في الشراء.
ودورة الحلقة السابقة نفسها يمكن تطبيقها من خلال إثارة البرنامج لمشاعر الفرح والحزن، أو الأمل واليأس، أو التسامح والتعصّب. المهم هو الازدياد المستمر لعدد مستعملي منصة التواصل، وإدمانهم استعمالها، والتلاعب بميولهم وسلوكاتهم، وتصنيفها في صورة بضاعة قابلة للبيع، واستمرار تكدس الثروات الهائلة في أيادي القلة المالكة للمنصة، وتعاظم نفود ومكانة هؤلاء في العالم كله، وانتقالهم إلى خلق مؤسسات رأسمالية ربحية، واحتكارهم لبحوث وتطوير صناعات من مثل الذكاء الاصطناعي، أو الروبوتات.
ما يهمنا هو أن يدرك جيل المستقبل العربي أنه مقبل على أمواج هائلة من التلاعب بغرائز وأفكار البشر والهيمنة على حرية الأفراد، واستقلاليتهم الشخصية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"