حقائق تكشفها الملحمة الغزاوية

05:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

يستطيع الإنسان أن يعرف أهمية وحجم المشهد الغزاوي من زخم النشاطات العربية والإقليمية والدولية التي تتعامل مع أدق تفاصيله. ذلك بأن الجميع يعرفون بأن نتائج المحرقة الصهيونية ستقرر سير المسألة الفلسطينية لعقود طويلة قادمة، بل وستقرر الى حد كبير نوع المشهد السياسي في الوطن العربي لسنوات عديدة قادمة. إن زجّ قسم كبير من الماكنة العسكرية الصهيونية في المعركة، والانقسامات العميقة بين الأنظمة العربية حول عقد القمة العربية الطارئة وحول مكان انعقادها وحول توقيت ذلك الانعقاد، والنشاط الدولي وعلى الأخص الغربي المحموم لتأطير المحرقة وتشويه معانيها، وبعض المؤامرات الخفية والعلنية لإلحاق الهزيمة بالمقاومة في غزة.. إنها جميعاً تؤكد أن أبعاد الموضوع لن تكون عسكرية ميدانية فقط، وإنما ستتعداها الى حقول مستقبل المقاومة العربية والإسلامية بأسرها والى مستقبل بعض الأنظمة العربية بما فيها السلطة الفلسطينية الحالية، والى اضطراب التوازنات الإقليمية والدولية في الأرض العربية كلها.

من هنا الأهمية الكبرى للحض على قراءة الموضوع الغزاوي من زوايا كثيرة مختلفة حتى ينزاح غبار المعركة الملحمية التي تدور رحاها بصورة مدهشة.

دعنا إذاً نلخص حقائق ووقائع المشهد في غزة الملحمة وهو يدخل اسبوعه الرابع:

* أولاً: هناك الصمود المذهل المفاجئ للمقاومة، مسنوداً بجماهيرها المحيطة بها في كل مكان والمضحية من أجلها في أرض المعركة بصبر هو فوق طاقة البشر. وسواء نجح الصهاينة في احتلال غزة كلها أم لم ينجحوا فإن عقارب ساعة الصراع العربي - الصهيوني لن تعود الى الوراء. إن الشعب الفلسطيني قد نقلته المقاومة لا كشعب حجارة واحتجاجات وإنما كشعب محارب بالسلاح، وهو أمر بالغ الأهمية على المدى الطويل.

ومن هنا الاستماتة الأمريكية والصهيونية والغربية المتواطئة وبعض الأنظمة العربية المذعورة وبعض الجهات الفلسطينية الفاسدة، استماتتهم جميعاً في إفشال هذه النقلة النوعية في النضال الفلسطيني التي ستحدث، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نقلات نوعية مماثلة في المقاومات الأخرى من جهة وفي العمل السياسي المدني من جهة أخرى.

* ثانياً: هناك الدلائل التي تدحض الاعتقاد السابق من أن الشارع العربي قد دخل مراحل النعاس السياسي واللامبالاة تجاه قضايا الأمة الكبرى. لقد ثبت في الأسابيع الأخيرة أن هذا الشارع، وعلى الأخص شبابه، على أتم الاستعداد للانخراط في العمل السياسي النضالي إذا كان الهدف واضحاً ومجمعاً وبعيداً عن العنعنات الطائفية والايديولوجية، هذه القدرات الكامنة في الشارع العربي تفسر مواقف بعض الحكومات العربية وهي تترنح، فيما هناك جماعة محاصرة جائعة عريانة لا ذنب لها إلا قولها إنها لن تساوم على كرامة أمتها وعلى حقوق شعبها.

* ثالثاً: لقد تبين أن تشرذم الحركات السياسية المدنية العربية عبر العقود الماضية وعدم قدرتها على تكوين تيار متناغم متعاون متفاهم على ما هو مهم مصيري وما هو هامشي جعلها إبان المحن الكبرى، مثل محنة غزة، غير قادرة على تكوين أداة فعل جماهيرية ضاغطة على الحكومات العربية. فمطالب الجماهير لقطع العلاقات مع العدو الصهيونية وإنهاء كل تطبيع معه أو فتح معبر رفح بقيت مطالب مظاهرات لا أداة سياسية لها لجعلها مستجابة من قبل الأنظمة المعنية. ولما كانت المعركة مع الصهيونية ممتدة فإن المطلوب من قيادات المجتمع المدني السياسية استيعاب هذا الدرس المهم لتستطيع التأثير في اتخاذ القرارات الرسمية إبان كل محنة كبرى للأمة.

* رابعاً: ظهر بصورة جلية أن النظام السياسي - الاقتصادي - العسكري في أمريكا لن يتغير بتغير الرؤساء الأمريكيين أو بتبادل السلطة الديمقراطية الصورية. إن أمريكا ستبقى إذاً معادية للعرب: تحتل أرضهم، تنهب ثرواتهم، تسند فاسديهم ومستبديهم، وتنعش عدوهم الصهيوني بالمال والسياسة والإعلام. وعليه فالتعويل على الخارج، سواء الأمريكي أو الأوروبي أو الدولي، لن ينفع ما لم تكن وراء ذلك التعويل قوى عربية مقاومة محاربة مكافحة ومجيّشة في كل وقت. التعامل مع أمريكا كعدو أصبح ضرورة حتى تغير انحيازها ضدنا ولؤمها في التعامل مع كل قضايانا.

هناك حقائق أخرى كثيرة ستظهرها الأيام، فملحمة غزة تختزن الماضي والحاضر والمستقبل، وستكشف الحركة الصهيونية أن أكبر أخطائها نار المحرقة المجنونة في غزة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"