لغة تعاتب أبناءها

02:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
يكاد بعض الآباء والأمهات يهملون الكثير من متطلبات أبنائهم، ولا يعيرون الاهتمام الأكبر بنوعية الأكل الذي ينمي أجسادهم، فلا ضير من أكل "الشيبس" والحلويات الملطخة بالأصباغ والسكريات، ولا مانع من لبس أي شيء، حتى إن كان لا يتناسب مع ما تعود عليه المجتمع، وليس مهماً في أن يجلس الطفل مجالس الرجال لتعلم فن الحديث وكرم الضيافة ومكارم الأخلاق، ولا أن تجلس البنت الصغيرة مع أمها تتهجى مفردات المعاملة المبنية على التواصل الاجتماعي السليم، لكن الأهم في الأمر هو أن يكون للابن اللسان الذي يستطيع أن يخرج به من نطاق محليته ليصل به إلى العالمية، ففكرة إرسال الأبناء إلى البادية لتعلم اللغة العربية والفروسية لم تعد موجودة، بل وأصبحت "دقة قديمة" ونوعاً من التخلف عن مسايرة الركب واللهاث خلف التطور والعالمية، وسخروا لإنجاح هذا المشروع الفكري الجديد كل الإمكانات، وذللوا كل العقبات، واقتطعوا من الموازنة العامة للأسرة الكثير على حساب الأولويات الأخرى، فلا يكاد بيت يخلو من مربية تتبع الطفل كظله، وتلاحقه بمفردات اللغة العالمية، وتسجنه أمام شاشة "الآيباد"، وتفتح له مواقع متعددة تربيه على السماع الصحيح والنطق السليم، وتعتبر هذه المربية عاملاً مساعداً ورافداً مهماً للمدرسة المتخصصة بهذا النوع من التعليم الذي يرفع درجاته الخاصة باللغة العالمية .
مشاهد هذا الفكر أصبحت تطفو مثل ورقة الفلين على الماء، فهناك من يتعمد أن تكون لغة أجهزة أبنائه الإلكترونية وهواتفهم عالمية، وبعضهم يتحدث مع أبنائه الصغار بهذه اللغة، أما اللغة الأم فليست ذات أهمية طالما أن الطفل يتحدث أو يفهم اللهجة التي يتحدث بها الجميع، والتي ربما أصبحت هي أيضاً مستهدفة ومنحرفة عن مسار نطقها بدخول بعض المفردات "المعوجة" نتيجة إرضاء العمالة التي دخلت في نسيج المجتمع من باب التجارة والعمل .
بينما كنت في قاعة الانتظار في أحد المستشفيات، كان بالقرب مني مربية وطفلتان في سنهما اللبني، والمربية تعلمهما اللغة العالمية من خلال أغنية راقصة، والطفلتان تميلان كأنهما غصن شجرة مرت عليه الريح فمال معها، والأم ترى هذا المنظر بإعجاب وفخر، وقدر لها أن يأتي دورها قبل دوري لأرى بقية المشهد الدرامي أمامي، وحين أرادت الدخول غابت عنها اللغة العربية وهي تحدثهما وأمرتهما بالجلوس مع المربية باللغة العالمية .
لا أدري لماذا يتفاخر البعض بهذا النهج الفكري، بينما لغتنا وهويتنا أصبحت تعاني كثيراً الإهمال، كما قال بلسانها الشاعر حافظ إبراهيم:
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ
                            إلى لغةٍ لمْ تتّصلِ برواةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى
                   لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعةً
                         مشكَّلةَ الأَلوانِ مُختلفاتِ
هذه اللغة التي كانت مقدرة مع أهلها لدرجة أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما يروى أمر واليه بضرب كاتبه لخطأ في اللغة، وهو الذي يقول: "تعلموا اللغة العربية، فإنها تثبت القلوب، وتزيد في المروءة"، والبعض منا في هذه الأيام لا يلتفت إلى درجاتها في شهادة أبنائه، أو ربما لا يهم أن تأتي متدنية ومؤهلة للنجاح، أما اللغة الإنجليزية فيجب أن تكون الدرجات فيها عالية جدا ليفتخر بتفوق ابنه، فهل هذا النهج نهجاً سليماً أم أنه ينطبق عليه ما قاله القائل: ما هكذا تورد يا سعد الإبل" .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"