22 فبراير.. خيبة وأمل

03:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

في بداية مارس/آذار1961 تسربت أخبار من واشنطن عن خطاب سري كتبه رئيس الوزراء «الإسرائيلي» ديفيد بن جوريون إلى وزير الخارجية الأمريكي دين راسك، يطلب فيه مساهمة الولايات المتحدة في تعمير صحراء النقب، وفيه يتحدث عن احتمالات الموقف في الشرق الأوسط، ويقول إن على إدارة الرئيس كنيدي ألا تضيع وقتاً في التودد للعرب وإقناعهم بالصلح مع «إسرائيل» لأن هذا الصلح احتمال بعيد المنال لسببين: ظهور جمال عبد الناصر بشخصه وأفكاره وعقائده بالنسبة ل«إسرائيل»، والثاني قيام الجمهورية العربية المتحدة التي وضعت «إسرائيل» بين جبهتين في الشمال والجنوب، لذلك يجب التخلص من جمال عبد الناصر شخصياً والتخلص من وجود الجمهورية العربية المتحدة.
بهذا المعنى كتب محمد حسنين هيكل في سياق مقاله «بصراحة» في 24 مارس/آذار 1961 بعنوان «المستقبل بين الجمهورية العربية وكيندي»، وكان كيندي دخل البيت الأبيض قبل شهرين في 20 يناير، وبعد ستة أشهر حدث الانفصال وسقطت الجمهورية العربية المتحدة، وبعد ست سنوات وجهت «إسرائيل» والولايات المتحدة ضربة يونيو 67 للقومية العربية، وكانت هذه لحظة فاصلة في التخلص من جمال عبد الناصر الذي أنهك تماماً في معركة إعادة بناء القوات المسلحة واستعادة الثقة بالنفس لدى الجيش والشعب المصري بل والأمة العربية بأسرها، وقد خاضها على خطوط النار في حرب الاستنزاف قبل أن يقضي في معركته الأخيرة لكي تبقى المقاومة الفلسطينية.
ذلك جرى على أول الجسر الواصل بين 22 فبراير 1958 يوم قامت وحدة سوريا ومصر و22 فبراير 2019 وبعده تعاقبت الحوادث وتغيرت الخرائط في منطقتنا وفي العالم، وفي ذلك اليوم قبل 61 سنة كانت الأمة العربية تستجمع طاقتها وتندفع نحو المستقبل والآمال الواسعة معقودة على شخص جمال عبد الناصر، الذي صنع منه صموده في السويس نجماً أشع في السماء العربية ورمزاً ألهم حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث.
هنالك عند أول الجسر استقلت الجزائر وموريتانيا والكويت وعمان واليمن الجنوبي والإمارات التي تألفت في كيان واحد ونشأت منظمات التحرير وبدأ الكفاح المسلح، ولبعض الوقت بدا أن يوم الوحدة العربية قريب وأن تحرير فلسطين ممكن، وعلى طول الوقت كانت التنمية في بعض البلاد العربية تسير بخطى واثقة وبحرص كبير على مبدأ العدالة. والآن عند نهاية الجسر تواضعت الأهداف وغدا أكبر الرجاء أن تحافظ الدولة الوطنية على وجودها وأن يقيم الفلسطينيون دولة صغيرة في قطاعين منفصلين.
إن المشروع القومي تبلور في رؤى وأهداف جسدها رجل والتفت حولها الجماهير بعفوية دون أن تخلق الأداة التنظيمية الواحدة والقادرة، ولقد أدى رحيله المبكر إلى عدم اكتمال بناء التنظيم وإلى تمزق أوصاله عندما كان في طور النمو، كذلك حرم الرحيل المبكر جمال عبد الناصر من قيادة معركة التحرير، وخلافاً لصموده الأسطوري بعد الهزيمة دفع النصر بخليفته إلى استجداء السلام في القدس، وهكذا بقي مناخ الهزيمة تغذت فيه وتوسعت حركة الإخوان المسلمين والجماعات المتفرعة منها ولم يكن لها جميعاً من هدف سوى القتل والإسراف في القتل وإشعال حرائق الكراهية والبغضاء بين الناس وتقديس المال على حساب الدين والفضائل، ثم أضافت الثورة الإيرانية دخاناً إلى الدخان وخراباً فوق الخراب.
المفارقة أن عبد الناصر تولى دعم هذه الثورة بتقديم المساعدة للمعارضة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني وشريعتي وطالقاني وغيرهم، وكانت إيران الشاه على تعاون وثيق مع «إسرائيل» وعضواً في الحلف المركزي (بغداد سابقاً)، الذي جعل منها قاعدة عسكرية أمريكية ومحطة إقليمية للاستخبارات المركزية، وعبد الناصر اتخذ قراره بدعم المعارضة الإيرانية بعد أن طلب تصوراً كاملاً عن الأسس الاقتصادية والاجتماعية لنظام الحكم الذي ستقيمه على أنقاض نظام الشاه وموقفها من الأحلاف العسكرية ومن «إسرائيل» ومن ادعاءات الشاه في الخليج، وقدم التصور بخط إبراهيم زاده أول وزير خارجية بعد الثورة الذي نشر صورته فتحي الديب في كتابه «عبد الناصر والثورة الإيرانية»، لكن الإيرانيين نكثوا بعهودهم.
إن هذه وغيرها أمراض أصابت الجسد العربي كونه معرضاً ومكشوفاً، لكن تحصينه ممكن إذا وجهت الجهود لجهاز المناعة وهي الجبهة الثقافية، فبصروح العلم ومتاريس المعرفة يمكن مقاومة الغارات التي تشنها جراثيم قوى التخلف.
لذلك فإن تطوير المناهج وتحرير العقل من الخرافة هو أول الطريق لاستعادة الوعي والحفاظ على الدولة الوطنية دون أي حديث عن آمال أطلقتها وحدة 22 فبراير، فتلك متروكة للتاريخ وحتمية التطور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"