عن عشق سكون المقابر

05:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

مقدار الترحيب بالتغيرات الكبيرة ومدى القدرة على إحداثها أصبحا جزءاً من مقاييس حيوية وفاعلية المجتمعات. الركود يجعل مياه المجتمعات آسنة والتغير يحيلها إلى أنهر وشلالات متدفقة متجددة. بادئ ذي بدء دعنا نرصد الآتي:

* في جمهورية السلفادور الأمريكية الجنوبية أسقط الشعب في الانتخابات قوة سياسية يمينية حكمته طوال أكثر من ثلاثين سنة واستبدلها بحركة يسارية تقدمية، وذلك على الرغم مما صرفته أمريكا من مئات ملايين الدولارات في الماضي لتدمير حركات اليسار، وعلى الرغم من اعتماد تلك الجمهورية شبه الكامل على مداخيل صادراتها لأسواق الولايات المتحدة الأمريكية.

* في باكستان خرج مئات الألوف في مظاهرات متحدية لقوى الأمن وذلك من أجل إعادة قضاة تم عزلهم في الماضي من قبل الدكتاتورية العسكرية، وعلى الرغم من تهديد ووعيد السلطات الحالية لجهات المعارضة، إلا أن زخم المظاهرات والتفاف قوى كثيرة من منظمات المجتمع المدني الحقوقية والسياسية حول تلك المطالب جعل السلطات تتراجع وتقبل بعودة القضاة المعزولين إلى مناصبهم السابقة.

* في مدغشقر ظل الألوف من المواطنين يجوبون الشوارع مطالبين بذهاب نظام سابق اتهموه بالتنكر لعهود ووعود سابقة، ونجحت الجموع في إقناع العسكر بالوقوف مع مطالبها وفي فرض إرادتها، وتغير الحكم.

نحن إذاً، أمام أمثلة من مجتمعات امتلأت بزخم الحيوية وأنتجت تغييرات لمصلحة جموعها. فما الذي يقابل ذلك الزخم في مجتمعات الأرض العربية؟ إنه سؤال يلح على الكثير منا كلما استمعنا لأخبار ما يجري في الدنيا الواسعة وقارناها بالسكون المذهل في مجتمعاتنا، وهو سؤال يولّد العديد من الأسئلة الأخرى.

إن الكاتب الأمريكي ثورو كتب بأن الأشياء لا تتغير، وأن ما يتغير هو نحن. فهل توقف الإنسان العربي عن تغيير نفسه فأدخل مجتمعاته في نفق اللامبالاة التي وصفها أحدهم بأنها الشر الأكبر الذي لم ينجح العلم بعد في اكتشاف دواء لعلاجه؟ ومنذ زمن طويل عرفنا، نحن المسلمين، بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فأخذنا بذلك التوجيه الإلهي وفجرنا تغييرات كبرى في كل أرض العرب طيلة القرن الماضي. فما الذي ران على الشخصية العربية لتنفصل عن قدرها وتزدري القول المأثور لفيلسوف اليونان

هيرا كليتوس من أن شخصية الإنسان هي قدره؟

أية تركيبة تلك، ولأية شخصية، التي ترى دساتير بلادها تنتهك، وقوانين مجتمعاتها تزوَّر، وقوى مجتمعاتها تهمش، وأوطان تعود لتدنسها أحذية الغزاة، والفساد المالي والإداري والذممي ينخر عظام مؤسساتها التي ترى كل ذلك ومع ذلك تبقى لا مبالية؟ إن اللامبالاة هي كبرى الآفات. وكان العالم ألبرت أينشتاين يقول عنها: إن الخطر على العالم لا يكمن في وجود أناس مؤذين، ولكنه يكمن في وجود أناس يرون تلك الأخطار فلا يفعلون شيئاً لمجابهتها. هذه اللامبالاة التي تتخمر شيئاً فشيئاً لتصبح سكوناً مجتمعياً تجاه كل الموبقات هي العلامة الفاصلة ما بين ما حدث في شهر واحد في أمريكا الجنوبية وباكستان ومدغشقر، وما يحدث في أكثر من بلد عربي.

إن المناضل الأمريكي الشهير مارتن لوثر كنج كان يقول، إنه في النهاية لن نتذكر ما قاله عنا أعداؤنا وإنما سنتذكر سكوت وسكون أصدقائنا. ولذلك فعندما سيكتب تاريخ هذه الحقبة السوداء من حياة العرب فإن ما سيبهر المؤرخين ليس كلام الانتهازيين وأزلام كل أنواع السلطات الفاسدة المستبدة، وإنما هذا الصمت المصم للآذان الذي ران على المجتمعات العربية اللامبالية، غير الراغبة في التغيير، العاشقة لسكون المقابر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"