روسيا وملف الإرهاب في آسيا الوسطى

02:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تعرف جمهوريات آسيا الوسطى تحولات عديدة على مستوى بنية مجتمعاتها المحلية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي. ومن الواضح أن أزمة الهوية التي تعاني منها تلك المجتمعات إضافة إلى الصعوبات المتعلقة بتحوّل دول المنطقة إلى جمهوريات مستقرة تحكمها مؤسسات منتخبة، جعل المنطقة تسقط برمتها في شراك الإيديولوجيات المتطرفة التي تسعى إلى استثمار التحولات الحاصلة على مستوى التمثلات الجماعية للوعي الهوياتي من أجل فرض أجندتها الخاصة على مجمل النسيج المجتمعي لشعوب دول آسيا الوسطى.
ويفرض هذا الوضع الجديد تحديات كبرى بالنسبة للأمن القومي الروسي، نظراً للصلات التاريخية الوثيقة التي تربط موسكو بالمنطقة من جهة، وبالنظر أيضاً إلى العلاقة التي تربط شعوب آسيا الوسطى بمسلمي القوقاز في روسيا من جهة أخرى.
وقد عاد الحديث بقوة عن دول آسيا الوسطى المتكوّنة بشكل أساسي من خمس دول هي كازاخستان، طاجاكستان، تركمانستان، أوزبكستان وقيرغيستان، بعد أن احتلت هذه الدول رفقة منطقة القوقاز الروسية، المرتبة الثانية بعد الدول العربية من حيث تزويد المجموعات الإرهابية بالمقاتلين في سوريا والعراق، وبخاصة بعد قيام رعاياها بتنفيذ العديد من العمليات الإرهابية التي كان من أبرزها عملية دهس المدنيين في مدينة استوكهولم والانفجار الذي حدث في مترو الأنفاق بسان بطرسبورج وعملية إطلاق الرصاص على السياح والمواطنين الأتراك في ملهى ليلي بمدينة إسطنبول مع مطلع السنة الجارية.
وبدأت أواصر العلاقة ما بين التنظيمات المتطرفة الكبرى وفي مقدمها «القاعدة» وبعض مواطني دول آسيا الوسطى، تتطور بشكل لافت منذ تأسيس ما يعرف بالحركة الإسلامية في أوزبكستان التي لعبت دوراً رائداً في نشر التطرف في المنطقة قبل أن تنتقل إلى العمل مع أبرز مؤسسيها في أفغانستان وباكستان، الأمر الذي دفع روسيا إلى نشر قواتها في طاجاكستان التي تملك حدوداً طويلة مع أفغانستان، من أجل وقف تمدد نشاط الحركات الإرهابية نحو دول المنطقة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموسكو من الناحيتين العسكرية والاقتصادية.

وتجدر الإشارة في السياق نفسه إلى أن آسيا الوسطى تحوّلت خلال العقدين السابقين إلى منطقة تحظى باهتمام بالغ من طرف القوى الكبرى سواء تعلق الأمر بالفاعلين التقليديين في المنطقة مثل روسيا والصين أو بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، التي تسعى إلى إقامة علاقة متميّزة مع الدول التي تمثل نقطة ضعف أساسية من الناحية الجيواستراتيجية بالنسبة لموسكو ويطلق عليها المحللون تسمية «البطن الرخو» بالنسبة لروسيا في كل ما يتصل بمقتضيات الأمن القومي لروسيا في منطقة القوقاز، بحيث يكون من السهل على القوى الغربية، القيام بتطويق روسيا عبر البوابة الأوكرانية في أقصى شرق أوروبا، ومحاصرتها في الآن نفسه انطلاقاً من الحدود الأوزبكية في آسيا الوسطى.

ونستطيع أن نفهم بناءً على ما تقدم الأهمية التي بات يمثلها الصراع الصامت بين الولايات المتحدة وروسيا حول الملف الأفغاني وكل ما يتصل به من تداعيات سياسية وأمنية على مستوى العلاقات الدولية ما بين القوى الكبرى والتي من أبرزها تلك الاتهامات التي دأبت واشنطن على توجيهها بين الفينة والأخرى لروسيا بتقديم دعم عسكري واستخباراتي لحركة طالبان في أفغانستان، نظراً لقناعتها أن موسكو ليست لها مصلحة، على الأقل في المرحلة الحالية، في عودة الأمن والاستقرار إلى أفغانستان، قبل حصولها من واشنطن على بعض التنازلات فيما يتعلق بالملفات الخلافية الأخرى. ويجمع الخبراء العسكريون الروس على أن أمن روسيا الاتحادية يظل وثيق الصلة بأمن دول رابطة الدول المستقلة التي كانت تمثل جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفييتي، حيث تمثل دول آسيا الوسطى قطب الرحى بالنسبة للاستراتيجية الدفاعية التي تتبناها موسكو، لذلك فقد حرصت منذ مرحلة التسعينات من القرن الماضي على توطيد علاقاتها العسكرية والأمنية مع هذه الدول؛ لكنها ما زالت تواجه حتى الآن تردداً ورفضاً لسياستها وخططها في المنطقة من قبل بعض النخب السياسية في جمهوريات آسيا الوسطى التي تطمح إلى نسج علاقات أكثر انفتاحاً مع الغرب، الأمر الذي يفسّر على سبيل المثال رفض أوزبكستان السماح لموسكو بإقامة قاعدة عسكرية فوق أراضيها. وتلعب كازاخستان في السياق نفسه دوراً بالغ الأهمية بالنسبة للاستقرار داخل روسيا لأنها تشكل مع باقي دول آسيا الوسطى منطقة عازلة من الناحية العسكرية بالنسبة لروسيا وتحمل أهمية أكثر استراتيجية لموسكو في حال نشوب خلاف غير متوقع مع الجار الصيني.
ويمكن القول في الأخير إن القوى الغربية تتهم روسيا بتضخيم خطر التنظيمات المتطرفة في آسيا الوسطى، بهدف تبرير استمرار ضغوطها على عواصم المنطقة من أجل المحافظة على نفوذها داخل مجموعة رابطة الدول المستقلة، التي لا يخفي الكثير منها طموحه في لعب أدوار إقليمية مستقلة عن وصاية موسكو، وهي تخشى بالتالي أن يُستثمر ملف التهديدات الإرهابية من أجل قيام الدول الكبرى بتصفية خلافاتها فوق أراضيها وعلى حساب المصلحة القومية لشعوبها التي لم تستطع حتى الآن حسم السجال المتعلق بعناصر هويتها الأساسية، التي يشكل الإسلام والقومية التركية والتطلعات المرتبطة بالحداثة الغربية، أبرز عناصرها المرشحة لإثارة مزيد من النقاش ما بين مختلف نخبها الثقافية والسياسية والدينية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"