اليونان بين الوعود الانتخابية والقبول بالأمر الواقع

04:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
د . جاسم المناعي
ان تجربة اليونان فى وصول الحزب الحاكم إلى السلطة من خلال استنفار جموع الشعب عن طريق الشعارات الرنانة ودغدغة مشاعر الناخبين عن طريق الوعود البراقة والتعهدات التي يصعب مقاومتها أو حتى رفضها . إلا ان مثل هذه التجربة هي ليست الأولى ولا أعتقد بأنها ستكون الأخيرة . وكما هو معروف في مثل هذه التجارب فإنها لا تلبث أن تصطدم بواقعية الأمور التي هي في الغالب بعيدة كل البعد عن طبيعة الوعود التي أعطيت للناخبين ان لم تكن مناقضة لها تماماً . وكما نتذكر فإن الحزب اليساري اليوناني "سيريزا" الذي كسب شعبية كبيرة من خلال ما قطعه على نفسه من تعهدات تكاد لا تصدق وفقاً للظروف الاقتصادية التي تعيشها اليونان، فقد قدم وعوداً طموحة جداً بدءاً بالتخلص من برنامج التقشف الذي فرضته على اليونان المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي مقابل قروض بمليارات الدولارات لإنقاذ وضع اليونان إلى التعهد بوقف برنامج الخصخصة ورفع الأجور، وإعادة توظيف أكثر من عشرة آلاف شخص تم الاستغناء عنهم وفقاً لسياسة التقشف المتفق عليها . هذا وقد ذهب الحزب الحاكم في وعوده إلى أبعد من ذلك، حيث أعطى الانطباع بأن اليونان ينبغي أن تعفى من بعض من ديونها وتيسير إعادة هيكلة المتبقى منها . طبعاً المتتبع لمجرى المفاوضات بين اليونان والمجموعة الأوروبية يكتشف أن اليونان حتى الآن لم تستطع ان تحقق أياً من هذه الوعود، حيث إنها اضطرت إلى طلب تمديد برنامج التقشف الذي وعدت بأنه لن يستمر من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى التراجع عن عزمها ايقاف برنامج الخصخصة ورفع الرواتب والأجور وإعادة توظيف من تم الاستغناء عنهم .
ومع ذلك وحتى الآن فإن المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي غير راضين عما قدمته اليونان من تنازلات، ولذلك اعطيت اليونان مهلة اربعة اشهر حتى تتقدم ببرنامج أكثر وضوحاً وأكثر تأكيداً لمدى التزامها بسياسة التقشف وسياسة الإصلاح، شرطاً لاستمرار المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي في توفير التمويل المطلوب .
ومن جانبه فقد أوضح صندوق النقد الدولي بأن التوضيحات التي تقدمت بها اليونان حتى الآن غير كافية أنه خلال الأربعة الأشهر المقبلة ينبغي على اليونان ان تؤكد التزامها الواضح وبشكل محدد على إصلاح نظام الضرائب ونظام التقاعد وسوق العمل والخصخصة .
إضافة الى كل ذلك فإن اليونان مطالبة ايضا بتأكيد صدقية الاجراءات المتخذة والمتفق عليها ضمن برنامج التقشف والإصلاح الاقتصادى . ان التشكيك في صدقية الاجراءات المتبعة ليس بالجديد، حيث سبق ان اثيرت تساؤلات عدة عن احصاءات الناتج القومي المستخدمة في قياس المعايير الاقتصادية المطلوبة من جميع الأعضاء المنتسبين للمجموعة الأوروبية .
في الواقع ان مثل هذه الاشكالية المتعلقة بالصدقية تثير مسائل كبيرة هي حسبما يبدو أكبر من موضوع عجز الموازنة أو مستوى المديونية أو معدلات النمو أو غيرها من المؤشرات الاقتصادية . المسألة تتعلق أكثر باختلاف الثقافات التي تنعكس في سلوكيات العمل والانضباط والصدقية . ولذلك فإن استمرار هذه الدول ذات الثقافات المتباينة ان لم نقل المتضاربة في مجموعة واحدة يفترض أن تكون منسجمة، هو أمر دائماً ما يثير الإشكال عن كيفية اخضاع هذه الدول ذات الثقافات المختلفة إلى معايير وسلوكات موحدة لم تحظ حتى الآن حسبما يبدو بالنجاح المنشود . وهذا التباين في الالتزام بمعايير المجموعة الأوروبية لا يقتصر على حالة اليونان فقط، حيث ينطبق الأمر أيضاً على دول أخرى في المجموعة مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال التي تمثل ثقافات ليست متطابقة تماماً مع ثقافات الدول الأوروبية الأخرى مثل ألمانيا أو الدول الاسكندنافية .
ما يهم الآن بشأن اليونان وبعد تراجع الحزب الحاكم عن وعوده الانتخابية والقبول بشروط المجموعة الأوروبية هو كيف سيكون موقف الناخبين من هذا الحزب، وهل سيظل على اثر ذلك محتفظاً بالشعبية نفسها التي أوصلته الى سدة الحكم أم أننا سنشهد أوضاعاً سياسية متوترة تعود باليونان إلى نقطة الصفر في موقفها تجاه المجموعة الأوروبية، وربما تعجل في مواجهة الواقع المر المتمثل في عدم توافر الانسجام الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى احتمالية خروج اليونان من منطقة اليورو حلاً أخير لا مفر منه .

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"