الرأسمالية بين النجاح والجشع

03:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

تهدف كل الدول إلى تحقيق نسب نمو مرتفعة على حساب كل شيء . لماذا هذا التعلق الأعمى بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي ومحاولة رفعه إلى أقصى الحدود الممكنة حتى على حساب البيئة والصحة والأخلاق؟ لماذا يكون الناتج المحلي الإجمالي الهدف الأساسي وأحياناً الوحيد للسياسات الاقتصادية المتبعة في كل الدول؟ هنالك اقتصاديون كبار عالجوا هذه المواضيع ومنهم "ستيغليتز" وحاولوا ادخال معايير إنسانية إلى الناتج حتى يصبح أكثر واقعية ويعبر بالتالي بشكل أفضل عن مستوى المعيشة ونوعيتها . لم يحصل حتى اليوم اتفاق دولي بشأن البديل عن الناتج بالرغم من أن نواقصه واضحة واستبداله ضروري ومنطقي . لماذا نحقق النمو القوي من دون سقف وأي نمو نريد؟ نمو المادة فقط دون النظر إلى المعايير الاجتماعية والإنسانية؟
يعرف العالم كله الاقتصادي كينز ودوره الكبير في تنشيط الاقتصادات على المدى القصير وفي تأسيس المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية كالبنك وصندوق النقد كما في خلق النظام المالي العالمي الذي بدأ مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وما زال مستمراً بشكل أو آخر وإن كان ناقصاً . لا يعرف العالم الكثير عن كينز فيما يخص نظرياته الطويلة الأمد للحياة الجيدة . يسأل في كتابه "الفرص الاقتصادية للأجيال المقبلة" عن سبب تحقيق الثروة وما هو المستوى الذي يجب أن نصل اليه للحصول على الرفاهية المطلوبة؟ أراد كينز سحب مساوئ الرأسمالية منها، وهي اقتصادية أي مبنية على الجشع وأخلاقية أي تتحقق بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة . استبق كينز الغضب الشعبي على المصارف والشركات المالية التي أدخلت العالم في أزمات متواصلة آخرها الأزمة الحالية المعروفة ب "الركود الكبير" .
اعتقد كينز أن الرأسمالية هي مرحلة انتقالية لهدف تحقيق الحياة الجيدة والنوعية، لذا يجب أن تعمل بشكل كامل وبكل طاقاتها . وغاب عنه أن حاجات الإنسان ليست ثابتة وجامدة بل تغيرت وزادت مع الوقت بحيث أصبح تحقيقها عملية مستمرة لا سقف لها . الرأسمالية خلقت سلعا وخدمات جديدة وبالتالي أصبح الحصول عليها واجباً بل ضرورة . وغاب عنه أيضاً أن القناعة والاكتفاء لم يعودا من شروط الحياة السعيدة وبالتالي يريد الإنسان الحصول على أكثر فأكثر ليس لرغبته أو حاجته له فقط، وإنما لأن الغير حصل عليه وبالتالي إن الحسد يدير تصرفات الإنسان . ما الذي حصل بعد عقود من النمو والجهود المتواصلة على صعيد الفرد أو الشركة وحتى الدولة؟

أولاً: لم تنحدر ساعات العمل في معظم الدول . حتى في تلك التي قصرت ساعات العمل الرسمية، يسعى الإنسان إلى زيادة دخله بعد الدوام تبعاً لإمكاناته وكفاءاته . ارتفع مستوى الأجور دون أن يخف ضغط العمل وتحدياته . هنالك 3 تفسيرات أحدها صحيحة . يعمل الإنسان أكثر لأنه يحب ذلك أو مهووس به . يعمل لأنه مجبر في القانون واجتماعياً عليه . يعمل لأن حاجاته ترتفع من يوم لآخر وبالتالي عليه العمل للحصول على الحاجات وهي الصحيحة على الأرجح .

ثانياً: هنالك خوف في بعض المجتمعات من التقاعد واللهو وبالتالي يعمل الإنسان ما دامت لديه القدرة على ذلك .

ثالثاً: هنالك مؤشرات تقول إن الإنسان يعمل أكثر وساعات أطول ليس لهدف مادي وإنما لإبقاء نفسه فاعلاً ومساهماً في المجتمع كما للهروب من الضجر أو المشاكل العائلية والاجتماعية .

رابعاً: في معظم الدول النامية والناشئة وبسبب غياب الضمانات الاجتماعية والصحية الكافية والمناسبة، يضطر الإنسان إلى العمل بعد الدوام وحتى بعد التقاعد لتأمين متطلبات الحياة العادية والاستهلاكية .
يشير الكاتبان سكيديلسكي الأب والابن في كتابهما عن القناعة والجشع إلى ضرورة تغيير السياسات الاقتصادية بحيث تهدف إلى النمو الإنساني النوعي . هنالك معايير يجب التنبه لها: أولاً: يقول الكاتبان إن أهداف الحياة هي أكبر من المال والنمو والثروة ويجب أن تضم على الأقل الصحة والأمن والآمان والاحترام والصداقة والراحة والعلاقات الجيدة .

ثانياً: ستبقى الأخلاق غائبة أو غير محترمة حتى تحقيق الاكتفاء في المجتمعات . تكمن المشكلة في أن الاكتفاء متحرك بسبب تغير السلع والحاجات . لذا سنعيش في ظروف يطغى عليها الجشع على حساب الأخلاق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"