تحولات جذرية تؤثر في الاقتصاد

03:41 صباحا
قراءة 5 دقائق

هنالك تحولات اجتماعية إنسانية كبيرة تؤثر في الاقتصاد . الفكر يتطور مع التكنولوجيا والعلوم، ومن لا يتابع كل التطورات يومياً يصبح متقاعداً مهما كان عمره . غير كاف أن يتابع الإنسان التطورات في ميدان عمله أو تخصصه فقط، بل يجب أن يكون واعياً لكل ما يجري حوله محلياً وإقليمياً ودولياً . مهما كان عمل الإنسان، إذا لم يتابع تطورات الصراع السياسي المالي الإداري في الولايات المتحدة مثلاً، يكون واقعا في غيبوبة أو أصبح عملياً على هامش الحياة العملية الجدية . كيف يمكن لإنسان في أي قطاع أعمال ألا يتابع مثلاً تحركات أسعار النفط أو المعادن أو مؤشرات البورصات الأساسية أو غيرها؟ أما التحولات الاجتماعية المرتبطة بتربية الإنسان وطرق تفكيره والتكنولوجيا المتوافرة للأجيال الجديدة، فهي ليست مهمة فقط بل جذرية وتحدث ثورة ضخمة في الاقتصاد والعلاقات الإنسانية بكل جوانبها .

يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال سير في كتابه عن الأجيال الجديدة إن العالم تغير بشكل كبير بحيث يجب على الشباب اختراع كل شيء . فالقديم لم يعد مفيداً لا في محتواه ومكوناته ولا في طرق التفكير والتحليل . من مؤشرات تغير المجتمعات هي نسبة السكان العاملين في الأرياف وفي الزراعة تحديداً . في بداية القرن الماضي، كانت أكثرية الفرنسيين مثلاً تعمل في الزراعة، أما اليوم فلا تتعدى النسبة 1% من الشعب أي فارق هائل أو فجوة ضخمة بين حياة الماضي وتحديات الحاضر . هذا تطور اقتصادي اجتماعي إنساني يؤثر في حياة المواطن والبيئة والعلاقات الاجتماعية خاصة في المدن . شباب اليوم مختلف عن الماضي في حياته وعمله وحتى في طرق وزمان تحويل الإرث بين الأجيال . تغير الزواج أيضاً ليس فقط في طبيعة ونوعية العلاقة، وإنما في مدته بسبب زيادة العمر المرتقب . في الماضي البعيد كان معدل عمر الزواج الناجح 30 سنة، أما اليوم فأصبح 60 سنة ما يجعل من صيانة العلاقة عملية طويلة وأحياناً صعبة حتى لا نقول معقدة .

الستون سنة الماضية كانت عملياً فترة سلم إذ لم تحدث منذ الأربعينات حروباً على المستوى العالمي، بل أصبحت محدودة جغرافياً وفي درجة العنف بالرغم من أنها تبقى مكلفة جداً للذين عانوها وما زالوا بشرياً ومادياً . العلاقات الدولية تغيرت خاصة منذ انتهاء الحرب الباردة، لكن المشاكل كبرت أحياناً وتعقدت حتى لو كانت وطنية أو إقليمية وليست دولية . تقدم الطب وتطور الغذاء في نوعيته كما ارتفعت مستويات التعليم كما لم يحصل سابقاً . تطور التكنولوجيا سهل النمو والتنمية، كما عزّز أيضاً طرق الفساد وسهّل على الفاسدين ابتزاز أو استغلال المواطنين والدول . بينما كان المواطنون يتعلمون في مدارس متجانسة في طلابها بسبب صعوبة النقل وتكلفة الانتقال، أصبحت المدارس والجامعات اليوم تحتوي في نفس الغرف على طلاب من هويات ومذاهب وأعراق وأديان وألوان ولغات مختلفة . يتأثر المجتمع أكثر بكثير بالإعلام ووسائله والتي تؤثر بقوة في طريقة تفكيره والعلاقات داخله . لا يمكن لشاب أو شابة اليوم أن يعيش من دون وسائل وتقنيات الاتصالات والمعلومات والمعلوماتية، وبالتالي يتخاطبون عبرها بلغاتهم المختصرة وأحياناً غير المفهومة حتى داخل القرى والمدن والبيت الواحد . أصبحت هنالك إذاً وسائل تخاطب جديدة فاعلة عابرة للقارات والمجتمعات . أسهمت هذه الوقائع في إيجاد إنسان جديد مختلف كلياً عن الأجيال الماضية التي تحاول دون جدوى الحفاظ على الطرق القديمة لأن الإنسان تغير ومعه طرق العمل والحياة .

أصبح من الصعب على الإنسان الجديد أن يسمع أو يركز تفكيره في وجود الضجيج التقني حوله . أصبح كل شيء متوافر أمامه عبر الآلة الجديدة التي تتطور كل سنة وأحياناً في مدة أقل . أصبح صعباً على الطالب أن يركز في المدرسة ويستمع إلى الأستاذ لأن أكثرية المعلومات متوافرة أمامه على شاشة الحاسوب أو الخليوي . أصبح صعباً على المدرس إيجاد معلومات وتحاليل ذكية وعلمية تهم الطالب وغير متوافرة له آنياً عبر الإنترنت . لم يعد العلم ينتقل كما في الماضي من الأستاذ إلى الطالب في غرفة المدرسة، بل أصبحت المعلومات متوافرة للجميع بسهولة كبرى . أصبح من الصعب على الإنسان الجديد أن يعمل ضمن فرق رياضية أو أحزاب سياسية أو مجموعات اقتصادية، لأنه تدرب منذ نشأته على العمل والتفكير بشكل أحادي . زادت الوحدة والأنانية وتعقدت العلاقات بين الناس . نسأل أنفسنا أحياناً لماذا كان ممكنا في الماضي تشكيل أحزاب فاعلة تحكم لفترات غير قصيرة مع الاستقرار وليس ممكناً اليوم؟ أصبح فعلاً صعباً، إذ نرى الصراعات الحامية المدمرة داخل الأحزاب العريقة نفسها وفيما بينها أيضاً . أين أصبحت الفرق الرياضية المتضامنة والمتجانسة في كل الرياضات ومنها كرة القدم . لماذا كان أسهل تشكيل فريق برازيلي لكرة القدم منذ عقود وأصبح ذلك صعباً اليوم؟ الواقع أن الإنسان تغير ولم يعد لاعب اليوم كما كان والده أو جده في السابق، ليس فقط في طريقة ممارسة اللعبة وإنما أيضاً في طريقة التفكير والتواصل والانضباط والإخلاص والرغبة في الفوز الشخصي حتى على حساب رفاهية الجماعة .

هذا التحول الاجتماعي فريد من نوعه، مختلف في عمقه وامتداده وسيستمر لفترات طويلة وثم يتبدل مجدداً . ضمن هذا الواقع الإنساني والفردي الجديد لا بد من نسج علاقات اجتماعية جديدة، إذ فشلت الأجيال الحالية في تصميمها ونشرها بل تركز للأسف على انتقاد الأجيال الجديدة واتهامها بالأنانية والانفرادية وتشك في مصداقيتها وفاعليتها وفي رغبتها في العمل الجاد للتقدم . يسهم هذا الشعور في تدمير رغبة الشباب في التقدم ويسبب علاقات متوترة بين الأجيال حتى لا نقول بعض العداء الفكري غير المفيد . هنالك إنسان جديد وبالتالي على المجتمعات التفكير بطرق وعلاقات جديدة تعمر ولا تدمر، لأن التخلص من الماضي ليس سهلاً في العموم . ما يحصل اليوم في أهميته ليس مختلفاً أبداً أو أقل جدية من الاختراعات والثورات الصناعية التي غيّرت العالم ومنها الكتابة والطباعة والكتاب .

تغيرت حياة الإنسان الجديد كثيراً ليس فقط في العلم والتعليم، وإنماً أيضاً في العلاقات الإنسانية وطرق العمل والإنتاج كما في ممارسة السياسة وطريقة عمل المؤسسات والشركات وطبيعة القوانين ومحتواها وطرق تنفيذها عبر القضاء والمؤسسات الأمنية . إنسان اليوم يسعى إلى إيجاد فرصة عمل، وعندما يحصل عليها يحاول إيجاد أخرى لأن الاستقرار والاطمئنان صعبان جداً في عالم اليوم المرتكز على التطور التكنولوجي السريع المقلق للإنسان . الأمان الوظيفي لم يعد موجوداً، وبالتالي يحرص الإنسان على تجنب المخاطر وبالتالي يستمر في البحث في الأسواق على فرص عمل مستقبلية جيدة ومناسبة .

كتب الاقتصادي جون كينيث غالبريث أن الوصول إلى المجتمع المثالي غير ممكن بل يجب الوصول إلى أفضل الممكن . يجب الوصول إلى مجتمعات تحقق العدالة للشباب وللفقراء، إذ ما زال الأغنياء والميسورون يسيطرون عملياً على مراكز القرار في أكثرية الدول . هذا ضروري لتعزيز الديمقراطية التي يجب أن تضم الجميع . هنا يكمن دور الحكومة لتعزيز الرفاهية الاجتماعية وتحسين التواصل بين أقسام المجتمع . في تفكير غالبريث المجتمع الجيد هو الذي يحترم الحريات والعدالة والحقوق كاملة، ومنها العمل والدخل الكافي والتعليم . مجتمع اليوم ليس مجتمع العقائد بل التفكير العملي للتقدم حتى على حساب القناعات والتاريخ والثقافة . لن يتحقق الاستقرار الاجتماعي من دون البحبوحة الاقتصادية . فالبطالة تسبب العنف والإجرام وتسهل استهلاك المخدرات والممنوعات . النمو يعطل مفاعيل البطالة ويعزز الفرص الجيدة ويسهم في احترام الحقوق والحريات للجميع .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"