كوربِينومستقبل اليسار الأوروبي

02:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

شكل فوز جيريمي كوربين بزعامة حزب العمال البريطاني في الانتخابات الحزبية في 12 سبتمبر/أيلول الماضي لغزاً، بل مفاجأة حقيقية لكثير من المراقبين. صحيح أن زعامة تد ميليباند كانت باهتة، قادت الحزب نحو هزيمة نكراء لمصلحة رئيس الوزراء كاميرون في انتخابات مايو/حزيران الماضية، فكان من الطبيعي والمعتاد أن يستقيل ويترك للحزب اختيار زعيم جديد، لكن ما لم يكن طبيعياً ومعتاداً، في مجتمع محافظ عموماً حتى في شقه اليساري، أن يفوز شخص مثل كوربين يحمل خطاباً لم يعتده البريطانيون في تاريخهم.
والمفاجأة الأكبر أن الفئة العمرية الشابة هي التي صوتت بكثافة للرجل ذي الستة وستين عاماً، فأتاحت له فوزاً مريحاً (59٪ من الأصوات) على المرشحين الثلاثة الشباب، ومنهم سيدتان تحملان خطاباً عصرياً حداثياً.
رد فعل رئيس الوزراء على انتخاب كوربين تميز بالعنف، إذ اعتبر أن ذلك «يشكل تهديداً للأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي، وخطراً على البلاد»، وفي الاتجاه نفسه ذهبت بعض الصحف مثل «الصنداي إكسبرس» التي عنونت: «وداعاً حزب العمال»، متوقعة أن يكون هذا الانتخاب بداية نهاية الحزب، في حين وصفته «الغارديان» ب«الزلزال»، وقد سارع خمسة وخمسون أستاذاً وعالم اقتصاد إلى توقيع عريضة ضد كوربين في «الفاينانشيال تايمز» واصفين أفكاره بال«خطرة»، فما كان من أربعين مناصراً له من المثقفين والاقتصاديين إلّا أن وقعوا عريضة مقابلة تمتدح أفكاره.
الرجل معروف في إنجلترا ولم يصل إلى زعامة حزب العمال مصادفة، فقد قضى ثلاثين عاماً كنائب في البرلمان، ولطالما تميز بخطابه اليساري المتميز عن البليرية الوسطية التي سيطرت على الحزب عقداً كاملاً ونصف العقد (بين 1994 و2010) وهو معروف ببساطته وتقشفه في العيش رغم أنه ضد التقشف في السياسة الاقتصادية، وهو نباتي ولا يحتسي الكحول ويهتم بحديقته بنفسه، ويتنقل بواسطة الدراجة الهوائية ولا يملك سيارة، ويكره ربطة العنق، وقال إنه طلق زوجته الثانية لأنها أصرت على إرسال أولادهما إلى مدرسة خاصة، وهو يمثل التجديد بالنسبة لمناصريه رغم أنه يؤيد إعادة تأميم قطاعات واسعة مثل سكك الحديد والنقل والطاقة، بل إنه طالب علناً بوضع «حد أقصى للأجور» لأصحاب العمل إلى جانب الحد الأدنى للأجور بالنسبة للعمال، وفي عز أزمة المهاجرين أعلن أنه يؤيد استقبال بريطانيا للمزيد من المهاجرين واللاجئين.
هذه المواقف ينقسم حولها حزب العمال، منافسه أندي برنهام وصف برنامجه الاقتصادي بأنه «يفتقر إلى المصداقية»، وقال توني بلير إن مناصري كوربين «يلزمهم زراعة مخ جديد»، في وقت حذرت الوزيرة السابقة مرغريت بيكيت من أن «الحزب المنقسم على نفسه هو حزب لا يفوز» في الانتخابات المقبلة عام 2020.
وقد استقال عدد من الوزراء العماليين من حكومة الظل فور إعلان فوزه، لكن في المقابل انضم أربعون ألف شاب إلى الحزب خلال الحملة الانتخابية لكوربين، وعشرون ألفاً بعد إعلان النتيجة.
في السياسة الخارجية يصفونه بأنه عديم التجربة والخبرة، فهو سلمي إلى أقصى الحدود ويمقت الحروب والحلول العسكرية مهما كانت الظروف.
فقد وعد بالتخلص من الأسلحة النووية (ومن غواصات ترايدنت التي تحملها)، إذا وصل إلى السلطة وربما الخروج من حلف الأطلسي الذي يعتبره سبباً للحروب والنزاعات، كما وعد بالاعتذار العلني الرسمي عن مشاركة بريطانيا في الحرب الأمريكية على العراق، والتي تسببت بكوارث للشعب العراقي ولمنطقة الشرق الأوسط، كما يقول، مضيفاً أنه يؤيد مشاركة «الأصدقاء من حزب الله وحماس» في حل سلمي للصراع «الإسرائيلي» - الفلسطيني، وهذا الموقف الأخير مضافاً إلى مواقفه التي يعتبرها كثيرون متحيزة للفلسطينيين ألب عليه عاصفة من الانتقادات، لكنها لم تحل دون انتخابه زعيماً للحزب العمالي.
من دون أدنى مبالغة يعني وصول كوربين إلى «داوننيغ ستريت» في عام 2020 انقلاباً عاصفاً في كل المشهد السياسي البريطاني بل الأوروبي وربما العالمي، فهذه الظاهرة ليست معزولة في الجزيرة البريطانية بل أضحت أوروبية منذ فوز سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا هذا العام، وقد توقع فرانسوا هولاند أن تمتد هذه الظاهرة لتشمل اليسار الأوروبي كله، وهذا يدل على أن ثمة خياراً يسارياً غير ما هو قائم.
كوربين يجسد هذه القناعة ويقف على خلاف مع الخطاب الاجتماعي- الديمقراطي السائد والذي حينما يصل إلى السلطة يمارس إدارة تتميز بالكثير من الحذر وتصبح حليفة للرأسمالية على حساب أصحاب المداخيل المنخفضة والفقراء الذين يفقدون عندئذ الأمل ويتخلون عن الأفكار التي أوصلت الحزب الذي ناصروه إلى السلطة.
لكن يشكك كثيرون بفرضية وصول كوربين إلى الحكم بل يتوقعون ألّا يستمر على رأس الحزب حتى عام 2020، نظراً للمعارضة الشديدة التي سيواجهها، أو أنه سوف يضطر لتغيير خطابه، كما فعل رفيقه تسيبراس في أثينا، والذي كان معادياً عنيداً للتقشف قبل أن يخضع للضغوط الأوروبية ويقبل بها، لا بل إن صحيفة «التلغراف» اعتبرت أن فوزه بزعامة اليسار يشكل فرصة نادرة لكاميرون لاسترداد الوسطيين الذين تخيفهم أفكار كوربين، «إنها فرصة تاريخية لكاميرون؛ عليه استغلالها» كما قال المحلل المحافظ فرازر نيلسون، والذي يشاركه كثيرون هذه القناعة، لاسيما أولئك الذين يتوقعون انفجار الحزب العمالي على نفسه، ما يعبد الطريق الواسع أمام بقاء المحافظين في السلطة لوقت مديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"