الأجندة الفرنسية في ليبيا ودول الساحل

03:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

جاءت المبادرة الدبلوماسية الفرنسية الأخيرة الهادفة إلى تحقيق توافق ما بين القوى الليبية المتصارعة، لتعيد إلى الأذهان تحركات باريس في المنطقة في فترة حكم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي التي أفضت إلى تدخل عسكري لحلف الناتو من أجل إسقاط نظام معمر القذافي. ويعود المشهد الليبي مرة أخرى ليحتل صدارة الأولويات بالنسبة إلى السياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة بعد انتخاب إيمانويل ماكرون، من خلال استقبال باريس رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبي فايز السراج، والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي الذي يسيطر على أجزاء واسعة من شرق ليبيا. كما تأتي التحركات الفرنسية بالتزامن مع النشاط البريطاني في المنطقة، وبموازاة أيضاً مع التحرك الإيطالي المتعلق بمحاولة مواجهة تزايد وتيرة الهجرة السرية ونشاط تهريب البشر انطلاقاً من السواحل الليبية، الأمر الذي يفسر انتقال السراج مباشرة من باريس نحو روما ليعبّر عن موافقته على دخول سفن البحرية الإيطالية إلى المياه الإقليمية الليبية من أجل مواجهة موجة النزوح الكبير للمهاجرين الأفارقة.
وبالتالي فإنه، وبالرغم من القلق الذي عبّرت عنه الدول الأوروبية المهتمة بالملف الليبي بشأن تزايد وتيرة الهجرة السرية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يخفي تعارض أجنداتها السياسية في ليبيا نتيجة لتنافس كل من باريس ولندن وروما، حول تقاسم الكعكة الليبية. ويبدو أن باريس تريد أن تستثمر حضورها القوي في الجوار الليبي، لاسيما في تشاد والنيجر، من أجل لعب دور أكثر تأثيراً في المستقبل السياسي الليبي. وتسعى باريس في هذه المرحلة على الأقل إلى ألا تتعارض مصالحها في ليبيا بشكل كبير مع مصالح القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وتحديداً مع مصر والجزائر، وهذا ما يفسّر في اعتقادنا قيام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، بإجراء مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الجزائري عبدالقادر مساهل حول الأوضاع في ليبيا، مباشرة بعد اللقاء الذي جمع ما بين السراج وحفتر في ضواحي باريس.
ويمكن القول إن الاهتمام اللافت الذي تبديه باريس نحو ليبيا ينسجم بشكل كبير مع الخطوط العامة للسياسة الخارجية الفرنسية في إفريقيا، لاسيما في مالي، ودول الساحل، وغرب إفريقيا التي تربطها مصالح حيوية كبرى بفرنسا، حيث ينظر الإليزيه بكثير من القلق إلى تزايد مخاطر التفكك وانعدام الاستقرار في ليبيا التي تتقاسم حدوداً شاسعة مع التشاد والنيجر، الأمر الذي يهدد بشكل واضح أمن قواتها في المنطقة، ومصالح شركاتها العاملة في دول الساحل، إذ سبق للكثير من الرعايا الفرنسيين أن تعرضوا للاختطاف في المنطقة لاسيما في النيجر التي تعمل فيها شركة أريفا الفرنسية التي تسهم في تزويد باريس باليورانيوم المستخدم في المفاعلات المتخصصة في إنتاج الطاقة الذرية.
ونستطيع أن نؤكد أن سياسة باريس في منطقة الساحل، باتت تتميز بنزعة هجومية غير مسبوقة منذ تولي ماكرون مقاليد السلطة في الإليزيه، حيث يذهب البعض إلى أن فرنسا خرجت في سياق تحركاتها الأخيرة عن عرفها الدبلوماسي الدارج الذي كان ينظر إلى الجزائر بوصفها القوة الأساسية التي تمتلك مفاتيح منطقة الساحل، بحسب تعبير نيكولا ساركوزي.
وإضافة إلى ذلك، فقد اتسمت تحركات باريس الأخيرة في المنطقة باستقلالية كاملة عن محور الجزائر، بالرغم من قيام ماكرون بإجراء 3 مكالمات هاتفية في ظرف شهرين مع الرئيس الجزائري لحث بلاده على بذل جهود إضافية من أجل تجسيد اتفاقية المصالحة التي جرى إبرامها بوساطة جزائرية ما بين سلطات باماكو والتشكيلات السياسية المعارضة لها. ويبدو أن باريس تريد الآن أن تفرض أجندتها الخاصة في المنطقة، من خلال تهميش الدور التاريخي للجزائر في مالي، لذلك فقد قامت مؤخراً بالإشراف على تشكيل «القوة العسكرية لمجموعة 5 ساحل» التي يبلغ تعدادها 5 آلاف جندي ينتمون إلى 5 دول إفريقية، هي موريتانيا، النيجر، مالي، تشاد وبوركينافاسو. كما قام ماكرون في 13 يوليو/تموز الماضي بمعية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بالإعلان عن إنشاء «تحالف من أجل الساحل» يهدف إلى دفع الاتحاد الأوروبي إلى الاضطلاع بمهام أكبر في الساحل الإفريقي.
وتمثل التحركات الفرنسية الأخيرة في رأي الكثيرين، تحوّلاً مفاجئاً في السياسة الخارجية لباريس في المنطقة، وتراجعاً واضحاً عن الإيفاء بالتزامات سابقة قطعتها على نفسها عندما أكد الرئيس المنتهية ولايته فرانسوا هولاند في وقت سابق، أن دور فرنسا كقوة استعمارية سابقة في إفريقيا قد انتهى، وأنها ستكون بمثابة شريك للدول الإفريقية من أجل تحقيق أجندتها الأمنية والتنموية الخاصة. وبالتالي فإن هذا التحوّل الذي يحدث على مستوى الأجندة والاستراتيجية الفرنسية لا يستهدف فقط عزل الجزائر وحرمانها من أوراقها السياسية بوصفها لاعباً رئيسيا في المنطقة، ولكنه قد يتطور لاحقاً باتجاه تصدير أزمة الطوارق في مالي نحو الداخل الجزائري من خلال استثمار العلاقات التاريخية التي تربط فرنسا بقبائل الطوارق في كل من مالي والنيجر والجزائر وليبيا، وبخاصة أن الكثير من القيادات السياسية للطوارق تقيم علاقات وثيقة مع باريس. وعليه فإنه وفي الوقت الذي تحرص فيه الجزائر على تفضيل خيار الحل السلمي بالنسبة لنزاعات المنطقة، فإن باريس ترى عكس ذلك في مالي، ما يؤدي إلى تغييرات سريعة في المنطقة تحت راية مكافحة الإرهاب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"