العلاقة الصينية الروسية

04:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

تسعى الصين، في لا وعيها ربما، إلى الثأر من الإهانات التي تعرضت لها على يد الغرب في القرنين الماضيين (كتاب «ثأر المهانين» للباحث الفرنسي برتران بادي يقدم تأصيلاً نظرياً لأطروحة الشعور بالمهانة ودورها في العلاقات الدولية). وفي الصين لا يزال الشعور القومي يطغى على الإيديولوجية الشيوعية حيث يتطلع الجميع إلى إعادة بناء «إمبراطورية الوسط» بالمعنى الجيوبوليتيكي والحضاري، ولو من دون طموحات إمبريالية خارج حدودها التاريخية. ويتضمن هذا الطموح، رغم ذلك، الرغبة في أن تدور الدول المجاورة في الفلك الصيني الذي يغدو القطب الأساسي في التجارة العالمية وفي كل الملفات الدولية الكبرى.
روسيا، من جهتها، يحركها طموح مشابه هو حلم العودة إلى أيام القياصرة الكبار والاستحواذ على نفوذ حاسم في أوروبا والملفات الدولية وتخطي الإهانات التي تعرضت لها غداة تفكك الاتحاد السوفييتي. ومن يسمع تصريحات فلاديمير بوتين ويراقب سياساته الداخلية والخارجية يصل إلى القناعة بأن الرجل يتطلع إلى استعادة بلاده لأمجادها ونفوذها في الساحة الدولية.
وهكذا تنهض العلاقة الصينية الروسية على رغبة مشتركة في إلزام الغرب، والولايات المتحدة على وجه التحديد، بالتعاطي معهما كقوتين محترمتين يحسب لهما الحساب بديلاً عن العلاقة السابقة التي افتقرت، في مرحلة تاريخية معينة، إلى الاحترام والندية. لكن هل يكفي ذلك لبناء تحالف استراتيجي يغير وجه النظام الدولي القائم؟
في الحقيقة، سجلت العلاقة بين الدولتين العظميين تقدماً ملحوظاً في العقدين السابقين وباتت مواقفهما أكثر من متقاربة في ملفات دولية عديدة بل ومتطابقة في جلها. وقد زاد التبادل التجاري والتعاون بينهما، في ميادين اقتصادية عديدة، ليصل إلى درجات متقدمة جداً، سواء بشكل ثنائي أو في إطار البريكس وغيرها من الأطر الإقليمية والدولية التي ينتميان إليها. هذا دون الكلام عن المناورات العسكرية المشتركة بين جيوشهما والزيارات المتبادلة بين مسؤوليهما الكبار، والمشاريع الصناعية الكبرى المشتركة بينهما لاسيما في المجال العسكري، وعقد الغاز (٤٠٠ مليار دولار) الذي وقعه زعيما البلدين في العام الماضي والذي وصفه المراقبون ب«صفقة العصر»...إلخ.
رغم ذلك فالشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية، كما يسميها قادة البلدين، لا تزال بعيدة عن التحالف بالمعنى الدقيق للكلمة، والتي لا تزال تحول دونه الكثير من الموروثات التاريخية. تكفي الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن الكتب المدرسية الصينية لا تزال تعلّم التلامذة بأن مناطق فلاديفوستوك وآمور هي أراضٍ صينية اضطرت سلالة ماندشو للتخلي عنها لمصلحة روسيا القيصرية بموجب معاهدة ايغون (1858) واتفاق بكين (1860) غير المتكافئين أي غير الشرعيين، من وجهة النظر الصينية. وهذه الأراضي التي تبلغ مساحتها تسعمئة ألف كلم مربع تحتوي على الكثير من الموارد الطبيعية الضرورية لاستمرار النمو الاقتصادي الصيني. كما أن هذه المناطق، ما خلا بعض التجمعات السكانية الكبيرة، ليست آهلة في وقت يسكن مئة وثلاثون مليون نسمة مقاطعات الصين الشمالية الشرقية المحاذية والتي تعاني الأزمة التي تضرب قطاع الصناعات الثقيلة. لذلك فإن الكثير من الروس يخشون أن يشتد عود الصين فتطالب بعودة هذه المناطق إليها. وكان الطرفان قد وقعا، في العام 2004، اتفاقاً ينهي هذا النزاع الإقليمي، ولكن الخروقات الصينية المستمرة للحدود مع روسيا تبعث على القلق في وقت لم ينس الكثير من الروس المناوشات العسكرية التي كادت أن تتحول إلى حرب مفتوحة مع الصين في العام 1969 حول السيطرة على نهر أوسوري، وهو خلاف لم يتوصل الطرفان إلى تسويته بعد.
والحقيقة أن الصين لم يكن لها في تاريخها حلفاء بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا ربما في فترة وجيزة خلال الحرب العالمية الثانية عندما تلقت مساعدة أمريكية محدودة، وبمناسبة الوفاق العابر بين ماو ستالين ثم خروتشيف والذي كان رغم ذلك مشوباً بحذر متبادل.
من جهتها روسيا تشعر بأن أوروبا الغربية الواقعة تحت النفوذ الأمريكي تدير لها الظهر، وبالتالي فهي مضطرة للبحث شرقاً عن أصدقاء وحلفاء. وهي تشترك مع الصين في أن نظامها السياسي لم يتبن الديمقراطية على الطريقة الغربية على الرغم من اعتناقه اقتصاد السوق بعد نهاية الحرب الباردة. لكن ذلك لا يغير من حقيقة البون الشاسع الذي يفصل ما بين النظام القائم على أحادية حزبية (الحزب الشيوعي الحاكم) في الصين وذلك القائم على تعددية حزبية وانتخابات وبرلمان (دوما) وغيرها من مظاهر الديمقراطية الشكلية في روسيا.
وهكذا يمكن وصف العلاقة الروسية الصينية بأنها علاقة بين نظامين براغماتيين، بين دولتين قويتين بل عظميين لكنهما معزولتان نسبياً، و هما في إطار البريكس أو العلاقة الثنائية المباشرة اختارتا ممارسة سياسة خارجية تشكل ثقلاً يرغم الولايات المتحدة، والغرب عموماً، على الاستماع إليهما باهتمام أكبر. هذا جل ما في الأمر، إذ إننا، على الأرجح، أمام مصالح وربما مصائر مشتركة حيال خصوم مشتركين، أكثر مما نحن إزاء عقد تحالف يعيد صياغة المشهد الدولي في اتجاه نظام قطبي عالمي جديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"