عهد الدولار الأمريكي

21:32 مساء
قراءة 3 دقائق

أثار ضعف الدولار مقابل عملات الأسواق النامية والناشئة الأخرى، إلى جانب تداعيات خطة اقتصادات ال«بريكس»، المعلنة إنشاء عملة عالمية جديدة، المخاوف مؤخراً، بشأن تقويض النفوذ الواسع للعملة الأمريكية.

يأتي ذلك في وقت تتأمل فيه الصين الحصول على النفط السعودي ب«اليوان»، وتسعى كذلك لتوثيق علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي لتسوية الصفقات الثنائية بين شركات الطاقة لديهما بعملتها المحلية. فهل تكون هذه بداية النهاية لعهد الدولار ونفوذه الحاكم؟

لقد أدى النظام القائم على الدولار الأمريكي حقيقة إلى اختلالات عالمية مستمرة في ميزان المدفوعات. فبالنسبة للولايات المتحدة، يتطلب النظام منها أن تدير عجزاً ضخماً في الحساب الجاري لتزويد العالم بما يكفي من الدولارات للسماح بتعديل الميزان. وهذا يحفز القطاع المالي على النمو بسرعة مقارنة بالقطاع الاقتصادي الحقيقي، ما يساهم في زيادة عدم المساواة، ويعيق النمو. والأهم من ذلك، أن القرارات التي يتخذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي لحماية الاقتصاد الأمريكي قد يكون لها تأثير معاكس في الاقتصاد العالمي، مثلما رأينا في حملة رفع سعر الفائدة الأخيرة التي أدارها الفيدرالي وتبعته معظم البنوك المركزية.

في الوقت نفسه، وبالنسبة لبقية العالم، فإن النظام الحالي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي يترك البلدان التي تعاني من عجز طبيعي في الحساب الجاري، مثل إندونيسيا، تحت رحمة التدفقات الرأسمالية الدولية، والتي قد تكون متقلبة للغاية في بعض الأحيان. وبهذا الصدد، تحاول بعض البلدان التحايل على هذه المشكلة من خلال سعيها لامتلاك فائض في الحساب الجاري، عن طريق قمع الاستهلاك المحلي، وتراكم الاحتياطيات، وتنمية استراتيجية موجهة للتصدير، مثل سنغافورة واليابان والصين.

ومع ذلك، لا يزال التحول بعيداً عن الدولار أمراً مستبعداً للغاية، وسط ظروف البيئة العالمية الحالية. فأولاً وقبل كل شيء، يعكس الاتجاه الحالي لضعف الدولار الأمريكي اعتقاد السوق بوجود هبوط ناعم للاقتصاد الأمريكي، وبالتالي انخفاض معدلات الفائدة. كما أنه من المرجح أن تحافظ العملات البديلة الأخرى على معدلات فائدة أعلى بسبب ارتفاع نسب التضخم. لذلك، قد يكون الضعف الحالي للدولار مدفوعاً من السوق، وليس مشكلة هيكلية عالمية.

ثانياً، لا تزال العملة الأمريكية تتمتع بأفضل الأساسيات مقارنة بأي عملة بديلة أخرى خلال أزمة الطاقة العالمية المستمرة. حيث إنه من المحتمل أن يتأثر الين واليورو بارتفاع أسعار الطاقة أكثر من الدولار. عدا عن أن الولايات المتحدة تبقى مستقلة أكثر نسبياً في هذا المجال، بفضل إنتاجها للنفط الصخري وامتلاكها للحقول البحرية. إضافة إلى ذلك، أدت زيادة أسعار الطاقة، المقومة بالدولار الأمريكي في الأغلب، إلى ارتفاع الطلب على العملة، ما عزز قيمتها المستقرة نوعاً ما.

ثالثاً، حتى الآن لا يوجد بديل قابل للتطبيق في أيدي المستثمرين بدلاً من السوق العميقة لسندات الخزانة الأمريكية التي يبلغ مجموعها 24 تريليون دولار. وتمتلك سوق الخزانة الأمريكية عالية السيولة حوكمة مالية فعالة تخلق معياراً خالياً من المخاطر للنظام المالي العالمي، وتفرض تكاليف التمويل لكل شيء، بدءاً من القروض التجارية إلى بطاقات الائتمان. وهنا تسلط أزمة سقف الديون الحالية في الولايات المتحدة والاندفاع اللاحق للحصول على أوراق حكومية أمريكية قصيرة الأجل، الضوء على حجم الطلب على سندات الخزانة الأمريكية.

رابعاً، وعلى عكس بنك الشعب الصيني وبنك اليابان المركزي، لا تزال ثقة المستثمرين العالميين بالاحتياطي الفيدرالي قوية، ما يتضح من خلال رد الفعل المباشر والمتقلب للأسواق المالية تجاه كل سياسة من سياساته. صحيح أن الفيدرالي الأمريكي ارتكب أخطاء في الماضي، مثل حجته بأن ارتفاع التضخم الأولي بعد الجائحة كان «عابراً»، لكنه يبذل اليوم قصارى جهده لإقناع الأسواق بأنه عازم على إتمام مهمته المتمثلة في محاربة التضخم العنيد رغم التقلبات السياسية والاقتصادية المتعددة.

السبب الخامس، والأكثر غرابة لبقاء الدولار الأمريكي على رأس قائمة العملات المهيمنة عالمياً، هو أن دول ال«بريكس» نفسها تعتبر من بين أكبر المستفيدين من النظام المالي الأمريكي. فالبلدان المصدرة للسلع في المجموعة مثل روسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، تراكم فوائض الحساب الجاري بالدولار، ولا تزال تشتري الواردات والأصول الأمريكية. ولكي تتقمص بعض العملات الأخرى الدور نفسه، كاليوان الصيني مثلاً، سيتعين عليها فتح حساب رأس المال لتزويد العالم بالعملة تلبية لاحتياجات المعاملات الأساسية. وقد يتسبب هذا بارتفاع كبير في قيمة اليوان بسبب جموح الطلب العالمي، لكنه في المقابل سيقوض الصادرات الصينية، المحرك الرئيسي لاقتصاد البلاد.

نعم، من المحتمل أن تتلاشى هيمنة الدولار الأمريكي إلى حد ما في المستقبل، حيث أصبحت الحاجة إلى إعادة التوازن العالمي للاختلالات التجارية مُلحّة بشكل متزايد وسط مستويات الديون العالمية المرتفعة، والسياسة النقدية الأكثر تشدداً. ومع ذلك، تبقى هذه الاحتمالية ضعيفة، بسبب ضعف التعاون العالمي في السياسة النقدية والمالية، وعدم شفافية تدفقات رأس المال الدولية وتزايد التفتت السياسي والاقتصادي.

«يوراسيا ريفيو»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/j95bmkbf

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"