الأزمة اليونانية أو نهاية الحلم الأوروبي

03:39 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

في بداية الألفية الجارية أطلق نجاح الأوروبيين في إصدار عملتهم الموحدة نقاشاً في أوساط السياسيين والمحللين الذين انقسموا بين متفائل ومتشائم حيال مستقبل الاتحاد الأوروبي السياسي والاقتصادي وموقعه في النظام الدولي الجديد.
ورأى المتفائلون وقتها أن تمكن دول الجنوب الأوروبي من تحقيق التقارب الاقتصادي، بحسب معايير معاهدة ماستريخت، مع دول الشمال الأوروبي، في فترة زمنية وجيزة، يحمل تباشير واعدة. فإيطاليا التي كانت تعاني أزمة اقتصادية حادة تغلبت على عجزها الخزيني، كذلك إسبانيا والبرتغال. أما اليونان فقد فاجأت الجميع بتحقيقها معايير الانضمام إلى منطقة اليورو، وهو أمر لم يكن يتوقعه أحد.
وإزاء النجاحات المتحققة راح المحللون الاقتصاديون المتفائلون يقدمون أرقاماً ومؤشرات اقتصادية تشي بتجانس مالي واقتصادي واضح بين دول «اليورو لاند» وبمستقبل واعد لقوة اقتصادية قد تطبع القرن الحادي والعشرين بطابعها. هناك من أعلن (لستر ثرو) بأنه كما كان القرن العشرون أمريكياً، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون أوروبياً. فقد برهنت الدراسات الاقتصادية الصادرة عن المؤسسات التابعة لبروكسل التي أجرت مقارنات مع الولايات المتحدة والصين وغيرها (بالأرقام والمنهجيات العلمية الدقيقة) أن السوق الأوروبي سيكون الأكبر حجماً والأكثر ازدهاراً ونمواً وتأثيراً في الاقتصاد العالمي في غضون العقود القليلة المقبلة.
جان دانيال، رئيس تحرير مجلة «النوفيل أوبسرفاتور»، كتب وقتها «إن العملة الموحدة تعد بانسجام في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والضريبية، وتولد بالتالي انسجاماً في الخيارات السياسية، واليورو وسيلة لتفعيل شعور الأوروبيين بالانتماء إلى جماعة وبالتالي دفعهم إلى المشاركة في "مغامرة جماعية" ستقود، بحسب جاك شيراك، «إلى نصر كبير هو أوروبا موحدة تضطلع بدور أساسي في عالم متعدد الأقطاب». ذلك أن اليورو، بحسب المستشار الألماني غيرهارد شرودر، «سيعطي دفعاً أساسياً للاندماج الأوروبي وسيطلق دينامية تصعب مقاومتها تساعد المترددين على حسم أمورهم، مع آثار مترتبة على كل ميادين التعاون، في ما يتجاوز كثيراً الدائرة النقدية».
محللون كثيرون اعتقدوا بالفعل أن العملة الموحدة لابد أن تقود إلى تنسيق جدي معمق بين وزراء اقتصاد ومال دول اليورو يوفر حلاً لكل الأزمات والمشكلات التي قد تنشأ مستقبلاً. ثم إن هناك آلية بين الاتحادين النقدي والسياسي ستحدث نوعاً من «البينغ بونغ» لا يترك للحكومات الأوروبية خياراً غير التعاون السياسي المعمق. والتحولات المؤسساتية المنتظرة قد تقود إلى تشكيل حكومة اقتصادية أوروبية على المدى الطويل.
كذلك تبارى المحللون المتفائلون في رسم التوقعات حول كيفية منافسة اليورو للدولار كعملة دولية مهيمنة قبل أن يحل محله تدريجياً، كما سبق وفعل الدولار الأمريكي مع الليرة الإسترلينية.
من دون الحكم بالفشل الكامل على توقعات هؤلاء، والتي صح بعضها، تنبغي الإشارة، في المقابل، إلى رأي المتشائمين، الذين رأوا وقتها أن العملة الموحدة لن تأتي بالضرورة بسياسة خارجية موحدة، بل إن غياب هذه الأخيرة سوف يهدد مستقبل العملة الموحدة. فهناك دول مثل بريطانيا والدنمارك والسويد لا تحبذ العملة الموحدة ولا السياسة الخارجية والدفاعية الموحدة، والاتحاد الأوروبي نفسه منقسم حول أمور أساسية كثيرة، كالعلاقة مع الولايات المتحدة والموقع داخل حلف الأطلسي والموقف من أزمات دولية، وغيرها من الأمور التي ليس من المتوقع أن يجد الاتحاد النقدي لها حلاً.
في نظر مارتن فلدشتاين، الأستاذ في جامعة هارفارد ، «ستقود العملة الموحدة والاندماج الاقتصادي نحو صراعات داخل أوروبا ومع الولايات المتحدة». وقد شاطره هذا الرأي سامي نائير نائب رئيس«حركة المواطن» والاشتراكي جان-بيار شيفينمان الذي كان وزيراً للدفاع ثم الداخلية ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، وذلك في كتاب له بعنوان «أوروبا نحو الحرب» صدر في العام ٢٠٠٤. وفي الاتجاه التشاؤمي نفسه ذهب المستشار السياسي الفرنسي بول ماري كوتو، فتوقع «حرباً أوروبية تعصف بكل المنجزات».
تصور فلدشتاين أن تختلف الدول الأعضاء في ما بينها حول أهداف ووسائل السياسة النقدية للمصرف المركزي الأوروبي. وهذا التعارض سوف يحتدم وبالتالي يسبب تغيرات ستطرأ على الدورة الاقتصادية وستجد بعض الدول الأوروبية قبل غيرها أنها تتعرض لتدهور في ظروفها الاقتصادية ولتصاعد في نسب البطالة. هذه الاختلافات ستساهم في تنامي عدم ثقة الشعوب وقادتها باليورو وبأوروبا. وستقود إلى تزايد عدد النزاعات التي لا نهاية لها حول تقاسم السلطة.
شدد المعارضون لليورو على غياب الديمقراطية عن المسار الاندماجي الأوروبي، وعلى أن أوروبا التي يجري بناؤها ليست أوروبا الشعوب والمواطنين، بل أوروبا الرساميل ورجال المال والأعمال. وبالتالي فإن النظام الرأسمالي المتوحش لن ينجح في ردم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية لا في داخل الدول الأوروبية ولا بينها، بل إنه قد ينفجر تحت ضغوطها وضغوط الخصوصيات الوطنية. وإذا ما حدث وضربت أزمة اقتصادية العالم، كما حدث غير مرة في القرن العشرين، (وحدث في العام ٢٠٠٨ انطلاقاً من الولايات المتحدة) فإنها قد تصيب أوروبا بشكل غير متساوق، بمعنى أن بعض الدول الأوروبية قد لا تتأثر بها كثيراً (ألمانيا مثلاً) وأخرى قد تصمد بصعوبة أمامها (فرنسا وبريطانيا والدول الاسكندنافية على سبيل المثال)، وأخرى قد تقترب من الانهيار ( قبرص وإسبانيا والبرتغال)، بل قد تنهار تماماً كما يحدث لليونان في يومنا هذا.
بكل بساطة، كشفت الأزمة اليونانية عن أرجحية رأي المتشائمين وأولئك الذين اقترحوا الإبقاء على العملات الوطنية الى جانب عملة أوروبية مشتركة، كحل وسط بين الرافضين كلياً للاتحاد النقدي والمفرطين في الحماسة له.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"