الإقصاء اللغوي

00:32 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هناك لغة تنقرض كل أسبوعين، بما يعني اختفاء 24 لغة في العام، وتتوقع الأمم المتحدة أن نصف لغات العالم، التي تقترب من 7 آلاف لغة، ستكون في عداد اللغات الميتة مع نهاية القرن الحالي.

  ولكن كل التقارير التي تتحدث عن تلك اللغات التي تموت أو تتعرض للخطر لا تخبرنا عن ماهية وطبيعة تلك اللغات، ونحن نقرأ عنها غالباً في الأخبار الخفيفة، مثل أن هناك شخصاً يعيش في غابات الأمازون يتحدث بمفرده لغة كاملة، هنا يبدو السؤال منطقياً هل هذا الشخص يمثل لغة متكاملة؟ وهناك أسئلة أخرى عديدة تتعلق بتلك اللغات المعرضة للانقراض، هل هي لغات مستقلة أم لهجات متفرعة عن لغات أخرى؟ وهل تمتلك أبجدية خاصة بها؟ ولماذا لا تقوم الأمم المتحدة بتوثيق تلك اللغات؟

  لقد أصدرت تلك المؤسسة الدولية «أطلس اللغات المهددة بالخطر»، ولكن هذا لا يكفي، لا بد أن تكون هناك آليات علمية لحفظ هذه اللغات، لا تقتصر على محاولات البعض الحصول على تسجيلات صوتية لمن يتحدثون بلغات نادرة.

  تثير أيضاً اللغات المهددة بالانقراض ملاحظات أخرى عدة، منها أن هذه اللغات تتعلق بثقافات على وشك الاختفاء، بكل ما تحمله كلمة ثقافة من منظومة حياتية متكاملة: عادات وتقاليد وحكمة متوارثة..الخ، كما أنها ترتبط بالمهمشين الذين يعبرون عن أعراق مهددة بدورها. فعندما نقرأ في خرائط تلك اللغات سنجد أنها تقع في إفريقيا جنوب الصحراء ولدى السكان الأصليين في الأمريكتين وفي استراليا. 

  في كتابه «مختصر تاريخ اللغة» يذهب ديفيد كريستال إلى أننا يمكن أن نحيي اللغة مرة أخرى كما فعلت نيوزيلندا مع لغة «الماوري»، السكان الأصليون للبلاد، من خلال بناء نظام يسمى «أعشاش اللغة» حيث تعلم الأطفال دون الخامسة «الماوري» من خلال برامج مكثفة.

 اللغة نظام شديد التعقيد، وهو لا يقتصر على القراءة والكتابة من خلال تمثل أبجدية ما ونطقها، ولكنها أيضاً نظام لرؤية العالم وإدراك الواقع المحيط بالإنسان، وهناك من يرى أن كل لغة تمنح من يتحدثون بها تفكيراً مميزاً ومختلفاً، بل وتطرف البعض فجعل العقل تابعاً للغة، مثل ما ذهب المفكر المغربي محمد عابد الجابري في «نقد العقل العربي» حيث منح العربية بطولة شبه مطلقة في تشكيل ملامح العقل الذي يرى العرب من خلاله الأمور.

  وهناك من يتحدث عن اللغة بحميمية وعاطفية أكثر فيجعلها عنواناً للهوية والقومية، فاللسان هو ما يميز أمة عن أخرى، وهو يحفظ آدابها ومروياتها ولحظاتها التاريخية ويسجل بطولاتها وانتصاراتها. ويوجد تاريخ طويل وخاص لكل لغة بداية من تشكلها وتراكمها وتدوينها ومروراً بأوقات قوتها وسيادتها وهيمنتها على بلدان وأقاليم وليس نهاية بقدرتها على البقاء والمنافسة في عالم يميل إلى الإقصاء اللغوي مع رياح العولمة، أي أن اللغة تساوي الذات الحضارية عند الكثير من الأمم. 

  من هنا نفهم تشديد البعض على أن اللغة لا تموت، ولكن بشرط أن نتخلى عن الإقصاء اللغوي، وأن نحترم إرث الآخرين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4fnux8ec

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"