اغتراب حليم بركات

00:37 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يُعد المفكر السوري الراحل حليم بركات، الذي توفي يوم 23 يونيو/حزيران الماضي، من المفكرين القلائل الذين كانوا مهجوسين بأحوال المجتمع العربي المعاصر، ووظّف العديد من المقولات في دراسة تحوّلات ذلك المجتمع، مثل مفهوم «المجتمع الانتقالي»، الذي يعني أن مجتمعاتنا تعيش منذ نحو قرنين من الزمان مرحلة تحوّل عسير؛ فهي تراوح بين الحداثة والأصالة، وبين الانغلاق والانفتاح، ممزقة بين اتجاهات وقوى متناقضة، متفائلة واثقة بنفسها، ومتشائمة ترسم صوراً سلبية لواقعها ومستقبلها، ويبدو من الظاهر أنها مجتمعات ساكنة ولكنها تعاني في العمق تغيّرات دراماتيكية على أكثر من مستوى، وهي أيضاً مجتمعات تضم العديد من النخب الموزونة، وتحتوي على نسب أمية عالية في الوقت نفسه. طرح حليم بركات هذه الفكرة في ثمانينيات القرن الماضي، ويبدو أنها لا تزال صالحة حتى الآن.

  وظّف بركات كذلك مصطلح «الاغتراب» في دراسة المجتمع العربي، ومنحه بُعداً اجتماعياً بعد أن كان يتسم بروح فلسفية عند فويرباخ وهيغل وماركس، واستعاره أيضاً من علم النفس الفرويدي؛ ليستخدمه بالتطبيق على مجتمعاتنا، التي تعيش الاغتراب على أكثر من مستوى يتعلق بمشكلات ثقافية واقتصادية تحاصر المواطن العربي وتجعله معزولاً، ويفتقد إلى الفاعلية، ولا يهتم إلا بشؤونه الخاصة، ولا يلتفت إلى الهم العام. أنجز بركات معظم مقولاته التحليلية قبل أن تهب رياح العولمة في كتب مثل «المجتمع العربي المعاصر»، و«الاغتراب في الثقافة العربية»، وسيعيد تطويرها مرة أخرى مع العولمة التي ستزيد من عمق المشكلات التي يعيشها المجتمع العربي على المستوى الثقافي بالدرجة الأولى.

عاش حليم بركات معظم حياته مغترباً في الولايات المتحدة، وربما أثّر ذلك بقوة في اهتمامه بمصطلح الاغتراب، وهي سمة مميزة نشعر بها لدى كل المفكرين العرب الذين عاشوا في الخارج، حيث سنجد مذكرات إدوارد سعيد معنونة ب«خارج المكان»، وهو عنوان يُحيل بدوره على الاغتراب ولكن من منطلق آخر. 

  وإذا كان رحيل الطبيب أو عالم الفيزياء أو الكيمياء إلى الخارج؛ إذ لا تتوفر في أقطارنا العربية البنية التحتية التي تساعده على تطوير مهاراته أمراً مفهوماً، فإن رحيل المفكرين للحياة في الغرب مسألة تدعو إلى التوقف والتساؤل، والقائمة تطول وتضم فضلاً عن بركات وسعيد: محمد أركون، وسمير أمين، وهشام شرابي، وإيهاب حسن، وغيرهم.

  ما الذي دفع هؤلاء إلى السفر بعيداً عن أماكن عملهم الأساسية، أو بلدانهم التي هي بمنزلة مختبرات بحث اجتماعي مفتوحة؟ فأعمالهم اللافتة والتي عرفناهم من خلالها كانت تدور حول تحليل ونقد تحولات تلك البلدان. لكل واحد منهم قصة وظروف خاصة دفعته إلى الرحيل، ولنا أن نتخيل الإضافة الأخرى التي كانت هذه النخبة ستقدمها لو بقيت في أوطانها، وعاينتها عن قرب، وعاشت لحظاتها المفصلية من الداخل.

   هناك سؤال يفرض نفسه بعد وفاة كل قامة فكرية أو علمية موزونة، وهو سؤال مكرر وإجابته معروفة ولكننا لا نمل من طرحه: هل هناك من يسير على الدرب ويواصل عمل هذه القامة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4czj534z

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"