التشريعات الفرنسية ومخاطر الأغلبية الرئاسية

06:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
أشارت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية إلى تقدم كبير لحزب الرئيس المنتخب الذي سمي مباشرة بعد انتخاب إيمانويل ماكرون في مطلع شهر يونيو/حزيران الجاري ب «الجمهورية إلى الأمام»، ليكون بديلاً عن «حركة إلى الأمام» التي لعبت دوراً رئيساً في إيصاله إلى أعتاب قصر الإليزيه. وينتظر ماكرون جولة الإعادة يوم الأحد 18 يونيو الجاري من أجل حسم النتائج النهائية لصالح حزب الأغلبية الجمهورية في الدوائر الانتخابية التي احتل فيها مرشحو الحزب مراتب متقدمة خلال الجولة الأولى التي جرت يوم الأحد 11 يونيو الماضي، لتأكيد الطابع المهيمن لحزب الرئيس الذي خلط أوراق السياسة الفرنسية وألحق هزيمة منكرة بالأحزاب الفرنسية العريقة.
وبالتالي فقد بات من شبه المؤكد أن تعمل نتائج جولة الإعادة، على ترسيخ حالة الانقلاب التي بات يعيشها المشهد السياسي الفرنسي، والتي أدت إلى اضمحلال وتفكك الأحزاب السياسية التقليدية التي عرفت نزيفاً داخلياً غير مسبوق، بشكل نجم عنه إعادة النظر في الخريطة السياسية الفرنسية، وفي أبجديات التقسيم الكلاسيكي الذي كنا نجده ما بين قوى اليمين وقوى اليسار. وهي وضعية استثنائية وغير مسبوقة دفعت النخبة السياسية إلى التحذير من تداعياتها السلبية، وذهبت إلى التأكيد على أن ما تقوم به المجموعات والقوى المؤيدة لرئيس الجمهورية، يمثل خطراً داهماً على مستقبل الديمقراطية في فرنسا، لأنه يُسهم في إرساء قواعد لعبة سياسية غير متوازنة، من شأنها أن تفضي في حال فشل ماكرون وأغلبيته النيابية، في تحقيق الأهداف التي وعدوا الفرنسيين بتجسيدها، إلى ارتماء الفرنسيين مستقبلاً في أحضان إما اليمين الشعبوي المتطرف وإما اليسار المتطرف.
ويمكن القول إن الكثير من المحللين السياسيين في فرنسا، باتوا مقتنعين أن استمرار وضعية التردي الاقتصادي والاجتماعي، قد تؤدي إلى تعزيز حالة الانغلاق والانكفاء على الذات بالنسبة للكثير من الفرنسيين، كما يمكن أن تسهم في اللحظة نفسها، في عودة حالة الاستقطاب السياسي المعتمدة على التمثلات الثقافية والهوياتية المتشنجة والعنيفة. من منطلق أن الفشل الاقتصادي وتفاقم حالات الهشاشة الاجتماعية، من شأنه أن يدفع الكثير من فئات المجتمع الفرنسي إلى الارتماء في أحضان قوى التطرف الشعبوي. لاسيما وأن التجارب السياسية القريبة والبعيدة، أوضحت بشكل لا لبس فيه، أن هذه القوى المتطرفة تمعن في استثمار بؤس المواطنين من أجل تحقيق أهدافها، وبخاصة في هذه الفترة الانتقالية التي مازال الكثير من الفرنسيين يشككون فيها في جدوى ومزايا الوحدة الأوروبية، الأمر الذي بدا واضحاً خلال انتخابات 2005 المتعلقة بالدستور الأوروبي، التي صوّت فيها الناخب الفرنسي بالأغلبية ضد مشروع الاستفتاء الذي عرض عليه؛ ومن ثمة فإنه من الخطأ الفادح، الاعتقاد أن ورقة التخويف من الجبهة الوطنية المتطرفة يمكن أن تمارس دور البعبع إلى ما لانهاية، فقد ينقلب، في أي لحظة، السحر على الساحر.
ومن الواضح بناء على ما تقدم أن ماكرون، سيحاول الاعتماد مستقبلاً، على الأغلبية البرلمانية التي سوف يزكيها الشعب الفرنسي، من أجل دعم برنامجه القائم على إعادة صياغة مشروع مجتمع فرنسي جديد، مغاير للمشروع الراهن الذي بات متجاوزاً في رأيه ولا يسمح لفرنسا بالمحافظة على دورها كقوة عظمى في العالم، بسبب التكلفة الاجتماعية الباهظة التي ترهق الخزينة العمومية. ويثير مشروعه المتعلق بإصلاح قانون العمل، مخاوف كبيرة لدى العمال والنقابات، حيث يرى الكثير منهم أنه يهدف إلى التضحية بالمكاسب الاجتماعية للعمال بالشكل الذي يمكنه أن يؤدي إلى وأد النموذج الاجتماعي الفرنسي القريب من نموذج الدول الإسكندنافية، وإلى إلحاق فرنسا بالمنظومة الأنجلو - أمريكية.
ويهدف مشروع قانون العمل الجديد، إلى اعتماد معايير جديدة أكثر مرونة تسمح بإيجاد علاقة تشاركية، بين أرباب العمل من جهة، والعمال وممثليهم من جهة أخرى، في سياق استراتيجية تسعى إلى إعطاء رجال الأعمال حرية أكبر في توظيف وتسريح العمال، ومن ثمة في المساعدة على انتقالهم بطريقة أكثر سلاسة من قطاع اقتصادي إلى قطاع آخر، بشكل يستجيب إلى احتياجات السوق المحلية، وإلى تحديات العولمة الاقتصادية، لاسيما في هذه المرحلة التي تتميّز، باشتداد حدة المنافسة ما بين القوى الصناعية الكبرى، وبسعي الشركات العالمية إلى نقل الجزء الأكبر من نشاطها الصناعي من الدول الكبرى نحو مناطق صناعية أكثر جذباً للاستثمار، نتيجة للحوافز الضريبية الكثيرة التي يجدها المستثمرون في الدول ذات الاقتصاديات الناشئة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
بيد أنه وبالرغم من النجاح السياسي المذهل الذي استطاع أن يحققه ماكرون في فترة وجيزة، إلا أن المسؤولية التي سيتحملها ستكون جسيمة بالنظر إلى التطلعات الكبرى التي بات يضعها الناخب الفرنسي الذي صوّت لمشروعه وآمن بشعاراته التي حملها ودافع عنها خلال كل هذه الاستحقاقات الانتخابية. وبموازاة هذا التفاؤل المستمد من حيوية وطاقة وجسارة وعنفوان الشباب الذي يجسّده ماكرون، إلا أن هناك قسماً معتبراً من الفرنسيين ما زالوا ينظرون إلى برنامج الرئيس المنتخب وإلى أغلبيته البرلمانية الجديدة، بكثير من الارتياب، ويرون أن تفاصيله وجزئياته تمثل تجسيداً لسياسات العولمة، الأمر الذي يدفع قوى أقصى اليسار واليمين على حد سواء، إلى التأكيد في العديد من المناسبات، على أن ماكرون يحاول أن يتعامل مع الشعب الفرنسي بعقلية مديري البنوك ورجال المال، الذين لا تهمهم سوى مصالحهم الاقتصادية الضيقة، حتى وإن أدى ذلك إلى معاناة قسم كبير من المواطنين الفقر، وإلى وقوعهم في شرك جشع الصناعيين وفي أتون فوضى الرأسمالية المتوحشة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"