عادي

العبقريـة والجنـون في الفلسفـة الحديثـة

23:55 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

احتل مفهوم العبقرية سواء في الفلسفة أم في غيرها من العلوم الإنسانية، مكانة مرموقة، وتوالت الكثير من المعالجات العميقة لهذا المفهوم، كونه أحد المفاهيم التي شغلت الإنسان بشأن مصدر العبقرية التي يتميز بها بعض الأفراد عن أقرانهم، وتعني العبقرية اصطلاحاً في الفلسفة جملة من المواهب السامية التي تمكن صاحبها من التفوق، وهي عند الفلاسفة لها تحديات مختلفة، فمثلاً هي إلهام سريع أو حدس قوي، أو صبر طويل، أو قوة خلق وإبداع.

أما علم النفس الذي يهتم بدراسة الشخصية الفردية من داخلها ودراسة سلوكها، فله هو الآخر رأيه في دراسة العبقرية، ويحدد مصدرها وطبيعتها وعلاقتها بالجنون أو بالدوافع المتسامية وغيرها، وتعني العبقرية في علم النفس النبوغ، ولهذا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشهرة.

في أحد فصول كتاب «من المعرفي إلى التاريخي» يتناول د. حسن مجيد العبيدي أهم النظريات النفسية التي أشارت إلى العبقرية وفسرتها، كالنظرية المرضية، التي تفسر العبقرية بوصفها ظاهرة مرضية تصيب بعض الأفراد وتقرر أن الصلة وثيقة بين العبقرية والجنون، ونظرية التحليل النفسي وتفسر ظهور العبقرية على أساس قوة الدافع النفسي للتفوق والامتياز، وهي تغالي في تأكيد هذا الدافع إلى الحد الذي تنسب إليه وحده ظهور العبقرية.

وضمن هذه النظريات النظرية الوصفية التي تفسر العبقرية تفسيراً يعزلها تماما عن قدرات الفرد العادي، فإن الاختلاف بين شخص مبدع وآخر عادي هو اختلاف في النوع أكثر منه في الدرجة، وهناك النظرية الكمية، التي تفسر ظهور العبقرية تفسيراً علمياً يخضع لنتائج الأبحاث التجريبية في القياس العقلي، فالعبقرية إنما هي تمايز نسب الذكاء وتمايز مستويات القدرات العقلية المعرفية التي يشتمل عليها الذكاء.

يتناول المؤلف مفهوم العبقرية عند الألماني شوبنهاور، الذي عالجها بوصفها مفهوماً فلسفياً ونفسياً في كتابه الذي ألفه عام 1881 تحت عنوان «العالم إرادة وتمثلاً»؛ إذ شغله هذا المفهوم لأنه يتصل بفلسفة الوجود وعلم الجمال والفن والإبداع والأخلاق، وقد كرس له الصفحات الطوال من كتابه هذا، الذي فرض عليه طبيعة العصر الذي عاش فيه، أي القرن التاسع عشر.

يرى المؤلف أن معالجة شوبنهاور لمفهوم العبقرية هي الأولى من نوعها في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، على الرغم من إشارات أفلاطون ومن بعده كانط، إلى هذا المفهوم، إلا أن شوبنهاور أعطى تصوره المحكم لهذا المفهوم وأدخله في حقل فلسفة الوجود والمعرفة، كما ربطه بالتخيل والجنون والطفولة والفضيلة.

معرفة حدسية

ترتبط العبقرية في فلسفة شوبنهاور بنظرية المعرفة ارتباطاً وثيقاً، لأن العبقري عنده لا يتميز عن سائر الناس إلا بالمعرفة الحدسية، التي ينفذ بها إلى أعماق الأشياء، حتى يصبح معها شيئاً واحداً، ويرى أن العبقرية تمتاز بكونها قدرة معرفية أو إدراكية أو تأملية في الوجود كله، إنها أنموذج متفرد للشخص الذي تمكن من تحرير عقله من ربقة الإرادة في لحظات معينة، هي لحظات التألم الموضوعي.

تبدو الصلة بين العبقرية والجنون عند شوبنهاور ذات شبه كبير، فكلاهما مرتبط بالزمان الحاضر أكثر من الماضي والمستقبل، مع التشديد على شيء واحد دون غيره من الأشياء، حتى لو كان هذا الشيء يبدو بنظر الآخرين لا أهمية له، لكنهما (أي المجنون والعبقري) يمتلئان حماسة واندفاعاً كبيرين من أجله.

كما أن المجنون لا يستخدم مبدأ العلة السببية في تفكيره، وهذه هي نقطة الاتصال الكبرى بينه وبين العبقري، فالعبقري يهمل العلاقات السببية بين الأشياء، فهو لا يبحث ولا يرى في الأشياء علاقات العلية، لأن العبقرية قائمة، حيث يصير الإنسان ذاتاً خالصة للمعرفة.

تماثل

من أوجه الشبه الأخرى بين العبقري والمجنون مما يراه شوبنهاور عدم السيطرة على النفس، أو ما يسمى بفقدان ضبط التعامل مع الأشياء، فالعبقري هنا يهتم بتفهم معنى الحياة في جملتها محاولاً أن يفهم «صورة» كل شيء بدلاً من الاقتصار على معرفة علاقاته بما عداه من الأشياء، وما يؤكد هذه الصلة بين العبقري والمجنون سيرة بعض العلماء في التاريخ أمثال جان جاك روسو وبيرون نيتشه، وغيرهم من انتهت حياتهم بالجنون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3ymnk5am

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"