المنزل أم المكتب.. أيهما أجدى للعمل؟

21:15 مساء
قراءة 3 دقائق

بيتر جاكوبسن *

بعد أن طلبت شركات التكنولوجيا، التي كانت عرابة العمل والمقابلات عبر الإنترنت؛ أمثال: «جوجل» و«أمازون» ومؤخراً «زووم»، من موظفيها العودة إلى المكتب يومين على الأقل أسبوعياً، يبدو أننا لا نزال نمضي في مسار أطول، لإعادة هيكلة العمل المكتبي كما كان قبل الجائحة. فما الذي تغيّر على مستوى الاقتصاد الأوسع عقب تجربة استمرت نحو 3 سنوات تقريباً من العمل عن بُعد؟

اتضح لدى البعض، ومنهم المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية، أن العمل عن بُعد لا يصب في مصلحة الشركات. وحلل الباحثون جانباً من قطاع إدخال البيانات في الهند، فوجدوا أن العمل من المنزل، يتسبب في خسارة فورية بمعدل 12% في الإنتاجية والدقة، وتزيد هذه النسبة إلى 18% بمرور الوقت. فإذا كانت هذه هي المحصلة في صناعة «إدخال البيانات»، الأكثر ملاءمة لتحقيق الإنتاجية من العمل في المنزل، فلك أن تتخيل نسبة الخسارة في باقي القطاعات.

نعم، لا يزال العمل عن بُعد أكثر شيوعاً مما كان عليه قبل الجائحة، كما لا يزال العديد من الموظفين يعملون وفق الدوام الهجين، بحسب «مركز بيو للأبحاث». لكن الاتجاه السائد يتعارض مع الكثير من التكهنات السابقة بأن «كوفيد -19» سيدفعنا إلى مستقبل خالٍ من المكاتب، وهو ما لم يحصل، فما سبب تراجع ثورة العمل عن بُعد؟

كنت دائماً مشككاً للغاية في أن العمل من المنزل سيحل بشكل دائم محل العمل المكتبي على نطاق واسع. وهناك أسباب لذلك، منها على سبيل المثال كُلفة بناء المكتب والمردود المقابل. فمساحة مكتب منفرد في مكان مزدحم مثل مانهاتن، يمكنها إدرار عشرات الآلاف من الدولارات شهرياً، فكيف إذا تحدثنا عن مبانٍ ضخمة بأكملها للشركات؟

وهنا قد يسأل أحدهم، طالما أن المكاتب مكلفة، وهو ما يبدو حجة لمصلحة العمل عن بُعد، فلماذا تنفق الشركات الكثير من المال لاستئجارها أو شراء مكتب فعلي؟ لماذا لا تتخلص من هذه المباني وتستعين بموظفين يعملون عن بُعد بشكل دائم؟

هناك جوابان محتملان لذلك، إما لأن هذه الشركات كانت مخطئة، وأهدرت ملايين الدولارات على مر السنين، وإما لأن وجود مساحة مكتبية فعلية قد وفر لها فوائد مالية كبيرة. وأنا قطعاً أميل إلى الاحتمال الثاني، فكون التواجد داخل مقرّ ما يعد باهظ الثمن منطقياً، يجب أن يوفر هذا المقر مزايا إنتاجية حقيقية وكبيرة جداً.

كما أن تحويل شركتك من مساحة اجتماعات فعلية إلى شركة قائمة على العمل عن بُعد، يعد أمراً مكلفاً للغاية. ففي بادئ الأمر، بدا لي أنه من غير المحتمل أن تتجاوز كُلفة تدريب الموظفين على كيفية استخدام البريد الإلكتروني بمهنية، والمكالمات الجماعية، وأساليب العمل من المنزل بكفاءة، كُلفة مبنى مكتبي، ولكن كان ذلك ممكناً، من الناحية النظرية على الأقل.

لكن «كوفيد-19» غيّر هذا بسبب سياسات احتواء الوباء، فاضطرت الشركات إلى تحمل كُلف التحول. وسرعان ما تبنّت التكنولوجيا دواء، وأنشأت غرف عمليات خاصة بذلك، وأغدقت الأموال، تحضيراً للانتقال إلى عصر العمل عن بُعد. لكن بمرور الوقت، ورفع القيود الصحية، بدأت الشركات تعود إلى المباني الكبيرة باهظة الثمن، لأنها وجدت ببساطة أن العمل من المنزل كان أقل إنتاجية في المتوسط منه في المكتب.

بعبارة أخرى، يكون «إنتاج الفريق»، بحسب تسمية الاقتصاديين، أكثر فاعلية «كوحدة متكاملة» من العمل الفردي الذي يتم تجميعه معاً. فبقدر ما يعمل الناس بشكل أكثر تماسكاً في فرق عندما يكونون حاضرين جسدياً، تزداد فوائد إنتاج الفريق.

ومع ذلك، ربما يترافق إنتاج الفريق مع مشاكل باطنية، ومنها صعوبة معرفة متى يتهرب شخص ما من واجباته على حساب أعضاء الفريق الآخرين (أي يبذل مجهوداً أقل).

فما علاقة هذا بالعمل عن بُعد؟ أعتقد أن الطرق التي يحل بها المديرون في الأغلب مشكلة إنتاج الفريق تتطلب مساحات مكتبية فعلية. فعلى سبيل المثال، قد يكون من الأسهل تعزيز ثقافة الشراكة التي تُحفز الموظفين على بذل المزيد من الجهد عندما يرون زملاءهم في العمل بشكل متكرر ويتحدثون معهم وجهاً لوجه.

على أي حال، يبدو أن مزايا الإنتاج الجماعي في الفضاء المادي لا تزال خارج نطاق الاستبدال الكامل. ومن الممكن أن ننتقل مع التغييرات التكنولوجية إلى مكان يكون فيه العمل عن بُعد شائعاً أو عالمياً، لكن لا ضمانات لذلك حتى الآن. وقد يختلف المدى الذي يكون من المنطقي أن يقوم به الأشخاص بالعمل عن بُعد اعتماداً على جميع أنواع العوامل التكنولوجية والثقافية والزمنية الخاصة بالوظيفة. في النهاية، لا توجد نهاية واضحة للجدال التاريخي حول مسألة أيهما أجدى، العمل من المكتب أم العمل من المنزل؟

* أستاذ الاقتصاد في جامعة «أوتاوا» وزميل في «مؤسسة التربية الاقتصادية»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bj9k535z

عن الكاتب

أستاذ الاقتصاد في جامعة «أوتاوا» وزميل في «مؤسسة التربية الاقتصادية»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"