عادي
«تصدير الخوف» و«بناء الجدار» أدوات فعّالة لولوجها

«الحدائق الخلفية».. استثمار في الكراهية

00:06 صباحا
قراءة 7 دقائق
الصواريخ السوفييتية في كوبا نموذج لحروب الحدائق الخلفية
مناورات «إيغيل بارتنر» بين أمريكا وأرمينيا
بوتين و مادورو.. علاقات خاصة بين روسيا وفنزولا
بايدن مع زعماء دول الإندو باسيفك التي تعتبرها أمريكا ساحة في الحديقة الخلفية للصين
العلاقات الصينية البرازيلية نموذج على وصول الصين بقوة للحديقة الخلفية للولايات المتحدة

د. أيمن سمير
حادثة «خليج الخنازير وعملية النمس» التي وقعت في أكتوبر/ تشرين الأول، عام 1962، واستمرت 13 يوماً، بأنها كانت أخطر الحوادث، وأقربها لاندلاع حرب نووية شاملة بين الولايات المتحدة وحلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، من ناحية، والاتحاد السوفييتي وحلف وارسو من ناحية أخرى، والسبب الأول لهذا الخطر تجسد في سعي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للاقتراب من «الحديقة الخلفية» للطرف الآخر، فالولايات المتحدة قامت بنشر صواريخ «جوبتر» في تركيا التي تقع على حدود روسيا، ما يعني في ذلك الوقت قدرة واشنطن على ضرب موسكو ب100 قنبلة نووية، هنا قرر الاتحاد السوفييتي استخدام الاستراتيجية نفسها، والذهاب إلى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة نفسها، عندما قرر نشر صواريخ باليستية متوسطة المدى تستطيع حمل رؤوس نووية في كوبا التي لا تبعد عن منزل الرئيس السابق، دونالد ترامب، في ولاية فلوريدا، أكثر من 90 ميلاً، الأمر الذي كان يقول بوضوح أن تلك الصواريخ يمكن أن تقتل وقتها نحو 80 مليون أمريكي في جنوب وشرق الولايات المتحدة، خاصة في ولايتي واشنطن ونيويورك.

هذا الصراع حول «الحدائق الخلفية» للطرف الآخر اكتسب زخماً وقوة كبيرين، منذ تغيير الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في 19 ديسمبر/ كانون الأول، عام 1917، والتي وصفت روسيا والصين بأنهما «منافسان استراتيجيان» للولايات المتحدة على الساحة الدولية. إعلان هذه الاستراتيجية كان «العنوان الكبير» لإطلاق الولايات المتحدة وحلفائها خطة متكاملة للاقتراب أكثر من الأراضي الصينية والروسية، وتجسدت هذه الرؤية عبر مسارين، الأول هو بناء «حزام صارم» من الأعداء حول الصين وروسيا، والثاني بنشر كل ما لدى «البنتاغون» من أسلحة معلنة وغير معلنة، بالقرب من حدود الدب الروسي، والتنين الصيني.

على الجانب الآخر كانت روسيا والصين جاهزتين للرد بالمثل، حيث باتت الصين وروسيا هما أقرب الحلفاء العسكريين والسياسيين والاقتصاديين، لدول أمريكا اللاتينية التي كانت عنواناً للنفوذ الأمريكي الذي كان يمنع أي قوة عالمية من الاقتراب من نصف الكرة الغربي، وفق مبدأ جيمس مونرو، الذي أعلنه قبل نحو 100 عام من الآن في 2 ديسمبر/ كانون الأول عام 1923، فأين وصل الصراع في «الحدائق الخلفية» بين واشنطن وبكين وموسكو؟ وما هي الأدوات التي تعتمد عليها الدول الثلاث في الاقتراب والتقرب من الحدائق الخلفية للطرف الآخر؟ وهل من مخاطر عالية لهذه الاستراتيجية تتشابه مع مخاطر أزمة الصواريخ الكوبية وخليج الخنازير؟

أدوات مختلفة وأهداف واحدة

اختلفت «الأدوات» التي تستخدمها الولايات المتحدة وروسيا والصين، في الاقتراب من أراضي ومناطق نفوذ الطرف الآخر، لكن تظل «الأهداف» واحدة، حيث الهدف الأمريكي أن يظل القرن الواحد والعشرون «قرناً أمريكياً»، بينما تسعى الصين لتكون «الدولة الأولى في العالم»، ولا تمانع في عالم «متعدد الأقطاب»، مع روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف تعمل الدول الثلاث وفق مجموعة من الأدوات وهي:

أولاً: الاستثمار في الكراهية

خلافاً لما يعتقده الآخرون، فإن فيدل كاسترو لم يكن شيوعياً، ولم يرغب في البداية أن يكون شيوعياً، كان يتمنى أن يكون صديقاً للولايات المتحدة التي كانت تدعم سلفه الجنرال باتيستا، لكن عندما قام كاسترو بالثورة عام 1959 لم يجد إلا العداء والكراهية من جانب الإدارة الأمريكية وقتها، ولكسب ود الولايات المتحدة سافر كاسترو إلى واشنطن للقاء الرئيس، دوايت أيونهاور، لكن أيزنهاور رفض مقابلته، أو مصافحته، وبينما كان كاسترو في الولايات المتحدة وفي مبنى الأمم المتحدة التقى ممثلين لأول مرة عن الاتحاد السوفييتي الذي كان يعلم برفض أيزنهاور لقاء كاسترو، وهنا كان «الاستثمار السوفييتي في الخلاف» بين الولايات المتحدة الأمريكية والزعيم الجديد في كوبا.

هذا المثال التاريخي نموذج على كيفية «توظيف» الولايات المتحدة والصين وروسيا للخلافات بين الدول وجيرانها، للولوج نحو «الحدائق الخلفية» للمنافسين، وفي الوقت الحالي تعمل الدول الثلاث بكل قوتها، لاكتساب حلفاء ومواطئ في «الحدائق الخلفية» للدول الأخرى عبر مجموعة من المسارات، وهي:

1-«الخلافات الحدودية الصينية»: تستغل الولايات المتحدة الخلافات على «الحدود وحقوق السيادة»، بين الصين وجيرانها، ليس فقط لتأليب جيران بكين على الصين، بل للذهاب إلى هناك من أجل نشر القوات الأمريكية، وبيع السلاح وبناء النفوذ، فقوة العلاقات الهندية الأمريكية قائمة على استغلال واشنطن للخلافات الحدودية بين الصين والهند، كما أن العلاقات الأمريكية مع تايوان قائمة على الاستثمار الأمريكي في الخلاف التاريخي منذ عام 1949 بين تايبيه وبكين، وهو السيناريو نفسه الذي تستفيد منه الولايات المتحدة في بناء نفوذها وبقائها على مقربة من الأراضي الصينية في اليابان ودول بحر الصين الجنوبي (إندونيسيا وسنغافورة وبروناي والفلبين وفيتنام)، وبعد أن كانت أستراليا قريبة للغاية من الصين، والصين هي أكبر شريك تجاري لاستراليا، نجحت الولايات المتحدة في تحويل أستراليا إلى قاعدة سياسية وعسكرية واقتصادية ضد الصين، مستغلة في ذلك «سلاح الخلافات» بين الصين وأستراليا

2- «حزام الكراهية ضد روسيا»، على مدار العقدين الماضيين نجحت الولايات المتحدة في استغلال بعض الموروثات السلبية بين روسيا وجيرانها الآسيويين والأوربيين، لضرب العلاقة بين موسكو وهذه الدول، ونجحت الولايات المتحدة في زرع الفتنة والخلاف بين روسيا ودول جنوب البلقان الثلاث (أرمينيا وجورجيا وأذربيجان)، إضافة إلى تصاعد الخلاف بين الكرملين ودول آسيا الوسطى (كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقيرغيزستان وتركمانستان)، فضلاً عن الخلافات الحادة بين روسيا وبين دول وسط وشرق أوروبا التي كانت يوماً ما، شريكة مع روسيا في «حلف وارسو»، فالقواعد العسكرية الأمريكية على الحدود الروسية في بولندا ورومانيا وبلغاريا ولاتفيا وليتوانيا وأستونيا، هي خير دليل على وصول الولايات المتحدة إلى مسافات قريبة جداً من المدن الروسية الرئيسية، مثل موسكو وسان بطرسبرغ، وشهد هذا الشهر اقتراباً أمريكياً غير مسبوق من روسيا في منطقة جنوب القوقاز عندما قبلت أرمينيا، التي كانت حتى عام 2018 الحلف الأقوى لروسيا، بإجراء مناورات «إيغل بارتنز 2023» مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه رفضت يريفان إجراء مناورات مع «منظمة الأمن الجماعي» التي تقودها روسيا، ما يقول إن الولايات المتحدة تقترب من الأراضي الروسية في منطقة ظلت على مدار أكثر من قرنين من الزمان «ساحة خلفية» ومنطقة نفوذ حيوي لروسيا القيصرية، ثم الاتحاد السوفييتي السابق، وبعدها روسيا الاتحادية.

3- «تمزيق أوراق مونرو»، من ينظر لأمريكا اللاتينية في الوقت الحالي يتأكد له أنها تميل إلى روسيا والصين أكثر بكثير من الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال زار الرئيس الصيني، شي جين بينغ، دول أمريكا اللاتينية 16 مرة، أي أكثر من آخر 3 رؤساء أمريكيين ( باراك أوباما الذي زار أمريكا اللاتينية 13 مرة، ودونالد ترامب مرة واحدة، وجو بايدن لم يزر أمريكا الجنوبية على الإطلاق)، كما أن رقعة ووتيرة عودة «الأنظمة اليسارية والشيوعية» في أمريكا اللاتينية تتزايد بشكل غير مسبوق، وتخرج أغلبية الدول من «العباءة الأمريكية» وتدخل تحت المظلة الصينية والروسية، وخير مثال على هذا هو صراع واشنطن مع كوبا وفنزويلا، الأمر الذي أعطى فرصة كبيرة للصين وروسيا في بناء علاقات استراتيجية مع كل من هافانا وكاراكاس

ثانياً «بورصة الخوف وبناء الجدران»

أكثر الأدوات التي تساعد في الوصول الى«الحدائق الخلفية» للطرف الآخر هو «سلاح التخويف» وبناء الجدران السياسية والاقتصادية والثقافية، ويتجلى هذا في سلسلة من المسارات، وهي:

1-يقوم التعاون الأمريكي مع دول مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية، على أن هناك «غزواً صينياً» وشيكاً لتايوان، وأن كوريا الشمالية تستعد لضرب اليابان وكوريا الجنوبية، وأن بكين تتغول وتقوم «بالإكراه الاقتصادي» للدول المجاورة،، وأن «سيناريو أوكرانيا» يمكن أن تكرره الصين مع جيرانها، خاصة تايوان والفلبين وفيتنام وكمبوديا، وتقوم دعاية واشنطن ضد الصين بأن الصين تريد الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، واستطاعت واشنطن وحلفاؤها الأوربيون من توظيف الحرب الروسية الأوكرانية لإثارة الخوف والذعر لدى جيران الصين.

2- «تكرار السيناريو الأوكراني»، نفس الاستراتيجية تكررها الولايات المتحدة مع جميع جيران روسيا الآسيويين والأوربيين، وتقول إن الرئيس الروسي لن يكتفي بأوكرانيا، وأنه يمكن أن يواصل التوجه غرباً في أوروبا، أو حتى مع الجيران الآسيويين، وتبني واشنطن رؤيتها في «تصدير الخوف» من روسيا على ما تصفه موسكو «أنصاف الحقائق»، والتي تتعلق بالحرب الروسية الجورجية عام 2008، والتي خسرت فيها جورجيا أقاليم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ثم الحرب في أوكرانيا التي خسرت فيها كييف 4 مناطق رئيسية، وقبلها خسرت شبة جزيرة القرم عام 2014.

3- «تصدير الخوف وبناء الجدار»،هو أيضاً سلاح صيني وروسي حيث نجحت بكين وموسكو في تعزيز نفوذهما في أمريكا اللاتينية خاصة مع فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا اعتماداً على القول إن الولايات المتحدة تستعد للإطاحة بأنظمة هذه الدول، وعلى سبيل المثال، تدعم الولايات المتحدة تولي «خوان جوايدو» السلطة في فنزويلا بدلاً من الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، وهو أمر يرى البعض أن الولايات المتحدة تعمل عليه من خلال تصنيف وتقسيم دول أمريكا اللاتينية إلى قسمين، الأول «دول ديمقراطية» دعاها الرئيس، جو بايدن، لقمة الأمريكتين في العام الماضي، ودول تصنفها واشنطن بأنها «غير ديمقراطية»، وهذا التصنيف هو «الباب الملكي» لنجاح روسيا والصين في تمزيق «مبدأ مونرو»، ما يفسر توجه دول أخرى في أمريكا اللاتينية نحو روسيا والصين، مثل الأرجنتين وبوليفيا وهندوراس.

ثالثاً «العدالة الاقتصادية»

أكثر الأدوات التي تستخدمها الدول الثلاث في بناء نفوذ في «الحدائق الخلفية» للطرف الآخر هو الحديث عن «العدالة الاقتصادية»، فالولايات المتحدة تتهم الصين بمأسسة «الإكراه الاقتصادي» واستغلال «فخ الديون»، بينما تقول روسيا والصين أن الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، خاصة المستعمرين القدامى هم من يستغلون وينهبون ثروات الدول والشعوب، وتُرجع موسكو وبكين رغبة الدول والشعوب في أمريكا اللاتينية وإفريقيا بالعمل مع الصين وروسيا، إلى رغبة هذه الشعوب في التخلص من الهيمنة وعدم العدالة في المعاملات الاقتصادية والتجارية التي يمارسها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، كما أن تأسيس «منظمة ألبا» الاقتصادية عام 2002 جاء رداً على تأسيس أمريكا لمنظمة التجارة في الأمريكتين، وهذه المنظمة تضم فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وبوليفيا والدومينيكان وأنتيغوا وسانت فنسنت وسانت لوسيا وسانت كريستوفر ونيفيس، وغرينادا، ما يؤكد نجاح روسيا والصين في الوصول «للحديقة الخلفية» للولايات المتحدة، وكل هذا قاد في النهاية أن أصبحت الصين هي الشريك التجاري الأول لعدد كبير من الأقاليم والمناطق في مقدمتها أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط، ودول مجلس التعاون الخليجي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/369cvba4

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"