الضجيج الذي يمقته ساباتو

01:37 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن
أكثر ما كان يزعج الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو (1911- 2011)، هو الضجيج، فلا طاقة له على تحمّل أي وجه من وجوهه، لكن أنّى لرجل أن ينعم بالهدوء وهو يعيش في مدينة مزدحمة مثل مدينته بوينس آيرس التي قدّر هو نفسه عدد سكانها، قبل عقود من الآن، بثلاثة عشر مليون نسمة، والمؤكد أن العدد بات أكثر بكثير اليوم؟

في مقاله الشائق «الصغير والكبير» شكا ساباتو الحال. قال إن ما يحزّ في نفسه أن يخرج رفقة صديق لاحتساء فنجان قهوة في محل عمومي، ليجدا نفسيهما مكرهين على قطع مسافة طويلة بمحاذاة العديد من التجمعات السكانية الضاجة، قبل الظفر بمكان يستطيعان أن يشربا فيه القهوة بهدوء، وسرعان ما يتكشف لهما أن الغاية لم تتحقق، وأن عليهما الإذعان للضجة من حولهما، وجلّ ما يستطيعان فعله هو أن يطلبا من صاحب المحل أن يتكرم عليهما بإطفاء التلفزيون.

يمقت ساباتو التلفزيون لأنه يراه جالباً للضجيج، ويخلق لدى مشاهده وهماً بأنه كائن متصل مع العالم بأسره، بينما الحقيقة هي أن هذا التلفزيون بالذات «يحرم الناس من إمكانية العيش داخل الجماعة بشكل أكثر إنسانية». التلفزيون، برأيه، هو «أفيون الشعوب»، لأن من يدمن مشاهدته يصبح مشبعاً بالبلادة والخمول، فهو حتى حين لا يجد ما يستحق المشاهدة يبقى خاملاً في مكانه، وغير قادر على النهوض البتة للقيام بشيء أجدى له وأنفع.«إنه يحرمنا من قراءة كتاب من الكتب أو ترتيب شيء يحتاج إلى أن يرتب في البيت، مصغين إلى الموسيقى أو مرتشفين للشاي بمتعة».

واضح أن ساباتو كتب كل هذا قبل أن يحلّ زمن إدمان الهواتف النقالة، وهو إدمان فاق بمراحل الإدمان على مشاهدة التلفزيون. ربما ما كان ساباتو سيدرج إدمان الهواتف في خانة الضجيج الذي يمقته، ولكنه كان سيتحدث بالتأكيد عن المفارقة الناشئة عن الوهم الذي يصنعه الإدمان على متابعة ما ينشر على التطبيقات المختلفة لهذه الهواتف بالتواصل مع العالم ومتابعة ما يدور فيه، فيما هو في الحقيقة يحبس المتابعين في دوائرهم الفردية المغلقة ويضعف كثيراً من تواصلهم مع المحيط من حولهم.

ساباتو الماقت للضجيج لا يبدو كارهاً لسماع الموسيقى، لكنه مع ذلك يتساءل:«هل يعقل أننا سنختار الإصغاء للموسيقى بينما الجميع من حولنا في المحلات العمومية يتحدث بلغط ويكاد يصيح؟»، ويبدو لنا أن ساباتو كان متفائلاً أكثر مما ينبغي حين اعتقد أنه لو صدع كل واحد منا بشكواه من الضجيج بعزم وهمة كما يفعل هو، فإن الأمور ستسير تدريجياً في مسار آخر مختلف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4uajfcfa

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"