مفارقات كتابة التاريخ

00:15 صباحا
قراءة دقيقتين
عبداللطيف الزبيدي
ما لك لا تسأل عن أحوال المؤرخين العرب؟ أين هم في العقدين الأخيرين؟ هل نجومهم أفلت، أم نحن يرجع بصرنا خاسئاً وهو حسير؟ يقيناً، جاد الغيثُ زمانَ كتابة التاريخ في عهد عبدالرحمن بن خلدون، فمنذ رحيله نضب نهر فلسفة التاريخ العربية، وصار التأليف في التاريخ، إلاّ ما ندر، تجميعاً وتصنيفاً للمعلومات عن الوقائع. كما أدخل مؤرخو الأحزاب والأنظمة الكثير من الاصطياد في الماء العكر، فغاب التحليل الحصيف، والاستدلال الشفيف.
غير خافٍ أن ثورة المعلومات كان لها أثرٌ هائلٌ في الوظائف والأدوار التي يؤدّيها الإعلام، فقد أحدث تسونامي البيانات في الشبكة العنكبوتية تياراتٍ لا قدرة لأحد أو جهة على التروّي والتحقيق والتدقيق والبحث العلمي، في مراجعها ومصادرها وصدقيّتها. أليست هذه هي الأمانة التي كان المؤرخون يحملونها ويعكفون عليها في أبراجهم العاجيّة، وهم في غير عجلة من أمرهم؟ كان إيقاع الحياة بطيئاً، فقد كان وصول الخبر من روما إلى الصين، أو من بغداد إلى سمرقند، يستغرق عاماً أو أكثر.
هل من المبالغة القول إن كتابة التاريخ توزّع دمها بين قبائل وسائط التواصل؟ ما يُنشر في هذه الأدوات يعادل آلاف المرّات ما تبثه الفضائيات والإذاعات وتنشره الصحف والمجلات على كثرتها بكل اللغات. المقلق هو أن وسائط الإعلام ووسائط التواصل غدت في كثير من الأحيان تتناقل الأنباء والصور نفسها، فهي تلتقي في مصّب واحد: الأرشفة، التي ليس فيها ذرّة مجال للفحص والتمحيص والغربلة، وهي منظومة الأدوات الدقيقة الاختبارية التي تتميّز بها كتابة التاريخ.
منذ قرون والناس يردّدون عبارة: «التاريخ يكتبه الأقوياء». اليوم لم تعد هذه المقولة كافيةً معبّرةً، فثورة المعلوماتية، من خلال القدرات اللانهائية للشبكة العنكبوتية، ومئات أشكال التلاعب بالمعلومات والصور والفيديوهات، وما يضيفه الذكاء الاصطناعي من عجائب التحريف والتزييف، أقحمت عناصر لا حصر لها من طرائق اللعب العابث بالأحداث، ما يجعل كتابة التاريخ حاضراً ومستقبلاً، وعموماً منذ بداية الألفيّة الثالثة، أمراً مختلفاً تماماً عمّا كان عليه في القرن العشرين. على المؤرخ اليوم أن يردّد: «تكاثرتِ الظباءُ على خَراشٍ.. فما يدري خراشٌ ما يصيدُ». كتابة التاريخ صارت مهزلةً، لأن تصحيح عبارة: «التاريخ يكتبه الأقوياء»، هو القول: «التاريخ يكتبه الكذّابون»، فقد رأى العالم كيف أن أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، استطاعت أن تحشد تسعاً وعشرين دولةً، لغزو العراق واحتلاله، بلد بكامله سُوّي بالأرض ماديّاً ومعنويّاً، ولم يكلّف الأمرُ أكثر من الإعلان: «كانت المعلومات غير دقيقة»، لكنها جعلت النظام «دقيقاً»، بعد خراب العراق، لا البصرة فقط.
لزوم ما يلزم: النتيجة النجومية: أين المؤرخون الذين يعيدون كتابة تاريخ العالم العربي في القرون الثلاثة الأخيرة؟
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/53xmu8rf

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"