د. حسن مدن
أحدهم قال مرة إن الإنسان ليس سوى مجموعة ذكريات. ربما كان عليه أن يضيف: إن الحياة هي التجارب، لأنه ما من تجربة إلا وتترك في نفوسنا أثراً، لا بل آثاراً، والتجارب هي من الاتساع بحيث تشمل حيزاً واسعاً من المعارف والخبرات والمشاهدات والقراءات واللقاءات والسفرات والمعاينات. وحتى لو لم يعِ الإنسان ما الذي تحدثه هذه التجارب في نفسه من متغيّرات، فإن تلك المتغيرات تحدث بالضرورة، حتى في حال لو قرر المرء أن ينظر إلى تجربة ما بمنتهى الحياد، فإنها قادرة على أن تحدث في نفسه أثراً قد لا يُرى، كأثر الفراشة إذا استعرنا تعبير محمود درويش.
ما أكثر ما تبث المحطات التلفزيونية برنامجاً يومياً يحمل عناوين من نوع: «حدث في مثل هذا اليوم»، أو «ذاكرة الزمن»، والأمر نفسه نجده في العديد من الصحف التي تؤرخ لوقائع حدثت قبل قرون أو عقود في اليوم المعني، حيث نطالع بيانات وتفاصيل عن أهمّ المنعطفات والأسماء والحروب والاكتشافات والانقلابات على أنواعها العلمية والعسكرية والسياسية التي جرت فيه، لكن هل حدث أن فكّر أحدنا أن يُعدّ مثل هذه المراجعة عن ذاته: ترى أين كان في مثل هذا اليوم قبل عشر أو عشرين سنة، أو حتى قبل عام، وما الأحداث أو المناسبات السعيدة أو غير السعيدة التي عاشها في مثل هذا اليوم، ومن هم الأشخاص اللطفاء وغير اللطفاء الذين مرّوا في حياته يومها، وأي أثر تركوه؟
حياة الفرد مهما كانت درجة صخبها وثراء تفاصيلها تبقى حياة مفردة محدودة التفاصيل، إذا ما قيست بحياة الجماعة التي هي أكثر من مجرد حاصل جمع التجارب الفردية، لكن ذات الفرد هي أيضاً عالم بكامل تعقيده وتناقضاته واتساع مداه، أما تقييماتنا لأنفسنا وتجاربنا فتظلّ نسبية، فنفس الواقعة التي كنا ننظر إليها قبل عام أو عامين بصورة ما، نعود فنرى فيها مع مرور الوقت وجوهاً أخرى كانت غائبة عنا، ولم يسبق لنا أن التفتنا إليها، ولعل ذلك هو ما حدا بأحد الكتاب أن يتساءل ذات مرة: «كم وجه للحقيقة، كم وجه للتجربة»؟، ليخلص إلى أن الحقيقة كقيمة مطلقة هي واحدة، لكن نحن لا نرى الحقيقة كاملة من جميع جوانبها من نظرة أولى قد تكون متسرعة، فقد لا نرى سوى وجه واحد، حتى لو غالينا في تقدير حجم هذا الوجه وأهميته، بحيث يطمس أو يغفل ويقلل من أهمية الوجوه الأخرى، وبالطبع فإنه كلما تعمقت تجاربنا وازدادت غنى، أصبحنا أكثر نضجاً ومعرفة وقدرة على القياس، وبالتالي أقرب إلى الحقيقة.
