تجاذبات التصنيع العالمي

21:25 مساء
قراءة 4 دقائق

جون بي رويل*

يمر المشهد الاقتصادي في الصين بأوقات مضطربة منذ سنوات، عطلت خلالها الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة سلاسل التوريد وقطاع الصناعة نسبياً، قبل أن تؤدي جائحة كورونا إلى زيادة تكدس الأحمال داخل الموانئ وتفاقم معاناة سلاسل التوريد.

اليوم، تواصل إدارة بايدن توسيع السياسات التي تحد وصول البر الرئيسي إلى السوق والتكنولوجيات الأمريكية، بما في ذلك القيود الجديدة على صادرات الرقائق المتقدمة التي تم الإعلان عنها قبل يوم واحد فقط من قمة مبادرة الحزام والطريق في ذكراها العاشرة.

وفي ضوء ذلك، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين بنسبة 43% في عام 2022، في وقت أقنعت فيه الولايات المتحدة حلفاءها بتقليص تعاونهم الاقتصادي مع بكين. ومن نتائج ذلك، إعلان إيطاليا، التي انضمت إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2019، عزمها الانسحاب من الاتفاقية، التي صارت اختباراً لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. كما بدأت هولندا في فرض قيود على صادرات أشباه الموصلات إلى الصين في مارس/آذار الماضي. وأدى اعتقال الأخيرة اثنين من رجال الأعمال الكنديين في عام 2018، والذي فُهم على أنه انتقام من احتجاز كندا للمديرة المالية لشركة «هواوي»، منغ وانتشو، إلى جعل المديرين التنفيذيين الأجانب والمستثمرين مترددين بشكل متزايد في السفر إلى الصين لإدارة أعمالهم الإقليمية هناك.

ومع ذلك، فإن مصدر القلق الأكبر لبكين هو التهديد الذي يواجهه النموذج الاقتصادي الصيني القائم على التصنيع والتصدير، والذي كان سبباً مباشراً للنمو الذي حققته البلاد خلال معظم فترات القرن الحادي والعشرين. ففي النصف الأول من عام 2023، انخفضت حصة الصين من واردات السلع الأمريكية إلى 13.3%، من 21.6% في عام 2017، وهي أدنى نسبة منذ 20 عاماً. ويُمكن أن يُعزى بعض هذا التراجع إلى سياسات «إعادة توطين الأعمال»، التي تنتهجها واشنطن وتشجع من خلالها الشركات على بناء المصانع وإدارة الأعمال في أمريكا بدلاً من الشرق الأقصى، فضلاً عن قيام الشركات الأوروبية بتحفيز التصنيع المحلي أيضاً.

ودفعت سياسات «الفصل الاقتصادي» هذه الشركات الغربية إلى تأسيس بنية تحتية صناعية لها في دول صديقة أو مجاورة، وهو ما يشار إليه غالباً باسم «النقل القريب» أو «دعم الأصدقاء». لذلك، بدأت بلدان مثل فيتنام، وماليزيا، وتايوان، وإندونيسيا، والهند، والمكسيك، وغيرها، تتنافس للفت انتباه تلك الشركات، عبر تقديم حوافز وتسهيلات تنظيمية وإعفاءات ضريبية.

وبالفعل، نجحت هذه الدول إلى حد كبير في مسعاها، فها هي «أبل» تُجمع اليوم أحدث هواتف «آيفون» في الهند، كما يتم تصنيع أكثر من نصف أحذية شركة «نايكي»في فيتنام، ويبدو أن المكسيك لن تفوّت أيضاً نصيبها من الكعكة الاقتصادية والاستثمارية، معتمدة على موقعها الجغرافي بالنسبة للولايات المتحدة وكندا واتفاقية التجارة الحرة معهما، ما دفع الشركات الأمريكية والكندية إلى زيادة الإنتاج في الأراضي المكسيكية.

لقد أثارت هذه التطورات جدلاً واسعاً حول ما إذا كانت «ذروة التصنيع» في الصين قد ولّت بالفعل. لكن في الحقيقة، تبقى هيمنة ثاني أكبر اقتصاد عالمي على التصنيع مستقرة بالقدر الكافي لدعم اقتصادها. فقد نمت حصة الصين من التصنيع العالمي من 26% في عام 2017 إلى 31% في عام 2021، في حين بلغت مساهمة كل من الهند والمكسيك وفيتنام 3% و1.5% و0.6% على التوالي فقط. وعلى الرغم من بعض الانخفاضات في التجارة الثنائية، سجلت التجارة بين الولايات المتحدة والصين مستويات قياسية في عام 2022.

ويعزو محللون مرونة الصين في مواجهة تحولات سلاسل التوريد العالمية إلى استثماراتها الاستراتيجية في البنية التحتية، والتي عملت على تبسيط آليات التصنيع والتصدير. سواء من خلال الموانئ الحديثة، وشبكات الطرق السريعة الواسعة، وأنظمة السكك الحديدية المتطورة، أو بالمجمعات الصناعية الراسخة، والحوكمة المستقرة، مع ضرورة الإشارة إلى التعداد السكاني الهائل لمن هم في سن العمل، بالإضافة إلى عوامل أخرى تجعل الصين، التي توصف ب «مصنع العالم»، بعيدة كل البعد عن أقرب المنافسين المحتملين.

وعلى الرغم من القيود المفروضة على سياسات الفصل الغربية، تظل بلاد التنين ذات أهمية حاسمة أيضاً في مجالات مثل المعادن الأرضية النادرة، كما تعمل على توسيع دورها في تصنيع المنتجات المتطورة في قطاع الطيران والتكنولوجيا الخضراء لتنافس الغرب، ذا الكعب العالي في هذا المجال. ناهيك عن المساعي الصينية في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا لإعادة صياغة سلاسل التوريد، والتي عززت من صادرات البلاد إلى هذه الأسواق.

لكن في المقابل، تبقى الاضطرابات الهائلة التي سيخلفها الانفصال الاقتصادي الحقيقي عن الصين غير مستساغة بنظر الكثيرين في القطاعين العام والخاص. وربما انعكس هذا الواقع في النبرة المتغيرة التي يستخدمها المسؤولون في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والذين أصبحوا ينادون بسياسة «الحد من المخاطر» بدلاً من «الانفصال» عن الصين. وعليه من المنتظر اليوم أن تتطلع الشركات الصينية والغربية إلى تجاوز القيود المفروضة على ممارسة الأعمال التجارية، والإثبات للعالم أن التبادلات الاقتصادية فيما بينهم تمثل، رغم العوائق، رابطة قوية لن يتم كسرها بسهولة.

* محرر في السياسة الاستراتيجية ومراسل الشؤون العالمية لمعهد الإعلام المستقل في نيويورك

* «غلوب تروتر»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/22a9bbab

عن الكاتب

محرر في السياسة الاستراتيجية ومراسل الشؤون العالمية لمعهد الإعلام المستقل في نيويورك

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"