«أبو الأتراك» مصطفى كمال

00:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول

كنت في زيارة شخصية إلى تركيا، تزامنت مع الاحتفالات المئوية لتأسيس الجمهورية في 1923. وقد توقعتُ، كما هي الحال في مثل هذه المناسبات، كرنفالات شعبية، وأغاني وطنية، ومسيرات أعلام، وانتشار الأزياء التقليدية وأعلام الجمهورية، في الشوارع والميادين.. وهكذا. بيد أن ما لفت نظري من شرفة الفندق الذي كنت أسكن فيه في قلب العاصمة أنقرة، وما أكّدته مشاهداتي في الشوارع والميادين والمحال، وما أعادت تأكيده السرديات المكررة في الحوارات مع الأصدقاء الأتراك، هو طغيان حضور مصطفى كمال، في الاحتفالات المئوية، وهيمنته على الفعّاليات المختلفة، وانتشار صوره، بقدر انتشار الأعلام في المدن، والشوارع، والطرقات.

وقد حاولت أن أبحث عن تفسير لهذا الحضور الطاغي لمصطفى كمال في حياة الأتراك، في ضوء أن هناك مناسبة سنوية أخرى للاحتفال به، والاحتفاء بذكرى ميلاده في 19 مايو/ أيار، وفي مقابل أن هناك حزباً ذا توجّه إسلامي يسيطر على الحكومة والرئاسة، منذ ما يقرب من عقدين؛ فالتنافر بين الإسلامية والكمالية في تركيا، لا يحتاج إلى إثبات. بعبارة أخرى، لم يستطع الإسلاميون، أو غيرهم، التأثير في طغيان «أبو الأتراك» على الحياة العامة، وخيال الناس في تركيا. والسؤال الآن هو: كيف يمكن تفسير ذلك؟

ثمة عوامل عدة، ومتنوعة، يمكنها تفسير ذلك، بعضها أصبح من فرط تكراره معروفاً لدى كل الخبراء، بل والصحفيين المتابعين للشؤون التركية، وبعضها استقيته من ملاحظاتي وحواراتي في أنقرة.

أول هذه العوامل هو دور مصطفى كمال في حرب التحرير الوطني؛ ذلك أن «الذئب الأغبر» هو الذي أمّن استقلال بلاده بعد أن تداعت عليها الأمم الأوروبية، عقب الحرب العالمية الأولى التي خسرتها تركيا؛ فهو رمز للفخر، أو الكبرياء القومية. ويُنظر إلى مصطفى كمال على أنه «واحد من الناس»، أو واحد من الأتراك، هاجرت أسرته صغيراً من الأناضول إلى «سالونيك»، وقتما كانت تابعة للدولة العثمانية، ثم عادت أدراجها إلى الأناضول بعد أن فقد العثمانيون ممتلكاتهم في البلقان. وقد تدرج كمال في العسكرية العثمانية، شأنه شأن الكثيرين من الأتراك حتى رُقّي إلى رتبة جنرال، ولكنه لم يكن كأي ضابط، أو جنرال عثماني؛ فقد كان لديه حلم، أو رؤية وطنية، شكلت فيما بعد أهم عناصر الأيديولوجية الكمالية التي بزغت بعد وفاته. وتمثل هذا الحُلم في تأسيس أمة تركية حديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، متعددة الثقافات متنوعة الإثنيات، والتي كانت تتداعى على أية حال.. أمة يشعر فيها الأتراك بالانتماء.

ثم إن هذا الرجل الذي حارب الغرب، وحصل على الاستقلال، وأسّس أمة تركية، لم يستنكف أن يولي وجهه شطر الغرب للنهل من منجزات الحداثة الأوروبية لبنائها. وهو، وإن بالغ أحياناً أو كثيراً في احتقار التراث العثماني، إلا أن هدفه كان وقوف الأمة التركية على قدم المساواة مع الأمم الأوروبية. وهذا الجزء من التراث الكمالي لا يزال مهيمناً على النخبة الحاكمة التركية.

والحديث عن التراث الكمالي يقودنا إلى أهم وأبلغ أبعاده أثراً في الأتراك جميعاً، لاسيما الأقل حظاً منهم، من الفلاحين والنساء والعمال، وهو أن مصطفى كمال عمد إلى تمكين الإنسان التركي، وجعله محوراً للتنمية، وتعزيز «الأنا» التركية، بحيث يستطيع الأتراك الفخر بانتمائهم القومي. وقبل كل ذلك وبعده، فقد أسس للأتراك «وطناً». والأهم من ذلك أن التراث الذي خلفه أتاتورك، أو التراث الكمالي، أيديولوجية ونظاماً عَقَدياً وأفكاراً وتقاليد، لا يزال متغلغلاً في المجتمع التركي. بعبارة واحدة، وبرغم أن الحزب الكمالي، وهو حزب الشعب الجمهوري، خارج السلطة، فإن الكمالية لا تزال مهيمنة على الدولة العميقة في تركيا.

كانت تلك ملاحظاتي في رحلتي التركية، الشهر المنصرم، عن كيف أصبح مصطفى كمال رمزاً قومياً طاغياً، يُجاري العلَم في انتشاره، ويُرادف الاحتفاء بالأمة والاحتفال بالجمهورية في تركيا. وظني أن هذه تجربة تستأهل مزيداً من التأمل العميق والبحث الدقيق للاستفادة منها في تأسيس رموزنا الوطنية في دولة الإمارات أو في سائر الأقطار العربية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc6mpp46

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"