عادي
رمزا العبقرية وملهما الفنانين والعلماء

أينشتاين وبيكاسو.. جمال ينشر الفوضى

23:47 مساء
قراءة 4 دقائق
أينشتاين وبيكاسو.. جمال ينشر الفوضى

القاهرة - «الخليج»

ألبرت أينشتاين وبابلو بيكاسو رمزا العبقرية، وملهما أجيال من الفنانين والعلماء، وهما أيقونتا القرن العشرين، العلم الحديث هو أينشتاين (14 مارس 1879 – 18 إبريل 1955) والفن الحديث هو بيكاسو (25 أكتوبر 1881 – 8 إبريل 1973)، ومع أنه أمر مسلّم به أن يجد المرء دوماً توافقات مدهشة بين أي شخصين، فإننا في حالة أينشتاين وبيكاسو، نجد تشابهات غريبة، وقابلة للتوثيق بين إبداع الرجلين والحياة الشخصية والعملية لكل منهما، والتناظرات بين الاثنين خلال فترة إبداعهما العظيم، تظهر لنا أكثر مما تظهره النقاط المشتركة في تفكيرهما، وتتيح لنا أيضاً أن نلمح طبيعة الإبداع الفني والعلمي، وكيف تحقق البحث على الحدود المشتركة للفن والعلم.

يؤكد آرثر ميللر في كتابه «أينشتاين بيكاسو المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى» (ترجمة عارف حديقة) ومن خلال مذكرات كتبتها «دورا مار» أن هناك خمسة عوامل حددت نمط حياة بيكاسو وأسلوبه، أيضاً المرأة التي كان يحبها، والشعراء الذين أدوا دور المحفز والمكان الذي أقام فيه، وحلقة الأصدقاء الذين وفروا له الإعجاب والتفهم، والكلب الذي كان يصاحبه على الدوام».

في منتصف صيف 1907، أبدع بيكاسو «آنسات أفينيون» اللوحة التي أتت بالفن إلى القرن العشرين، ومع أن كثيراً من أصدقائه من الأدباء والفنانين قد أكسبتهم مؤهلاتهم الشخصية بعض الشهرة، وكانوا يحترمون نباهته الفنية، فإن أحداً منهم لم يتهيأ لما خرج من مرسمه في يوليو من ذلك العام.

كان وضع أينشتاين مماثلاً لذلك في ربيع 1905 إذا انتقل إلى شقة ضيقة في بناية عالية من دون مصعد، وكان أصدقاؤه المقربون موظفين مغمورين مثله، وليس عندهم بالتأكيد أدنى فكرة عن ما سيصنعه قريباً، وهكذا -كما يقول المؤلف- تكون السير المتناظرة وسيلة لاستكشاف المناخ الفكري في مطلع القرن ال20، وهي فترة نبوغ منقطعة النظير منذ عصر النهضة.

إن النظرية النسبية ولوحة «الآنسات» تمثلان استجابة أينشتاين وبيكاسو، على تباعدهما الجغرافي والثقافي، للتغيرات السريعة التي اكتسحت أوروبا مثل موجة عارمة، وكان يجري في مركز هذه التحولات جدال حول التمثيل في مقابل التجريد، وفي الفن كان هناك حركة مضادة قوية للتصوير والمنظور شغلا مركز المسرح منذ عصر النهضة، وصعدت هذه الحركة إلى السطح بكل قوتها في فن سيزان التالي للانطباعية.

كانت التغيرات الجديدة في التكنولوجيا كالطائرات والإبراق اللاسلكي والسيارات تغير تصور الناس جميعاً للمكان والزمان، وأتاحت الصور المتعددة في التصوير السينمائي أن يصور التغير في الزمان، إما بالصور المتتالية للفيلم، وإما في صورة متتابعة للفيلم، وفي العلم بدا أن اكتشاف أشعة إكس يجعل الداخل والخارج ملتبسين، وفكر علماء الرياضيات تفكيراً أكثر تجريداً في هندسات جديدة يمكن تمثيلها بأكثر من ثلاثة أبعاد، وفتنت الناس على نحو خاص فكرة المكان بالأبعاد الأربعة مع تضمنها الحركة في المكان والزمان.

إن الرؤية المباشرة تخدع، كما أدرك أينشتاين خلال عام 1905 في الفيزياء، وكما أدرك بيكاسو خلال عام 1907 في الفن، ومثلما أطاحت النظرية النسبية بالمكانة المطلقة للمكان والزمان، أنزلت تكعيبية جورج براك وبيكاسو المنظور عن عرشه في الفن، لم تكن مقاربة أينشتاين للزمان والمكان رياضية في المقام الأول.

كانت مفاهيم علم الجمال أساسية لاكتشاف النظرية النسبية، وللتمثيل الجديد للضوء، ثم وسيلة لتوسيع النظرية حتى تشمل الجاذبية، وما كانت دراسات بيكاسو عن المكان فنية تماماً بالمعنى الضيق للكلمة، كما يكشف اهتمامه بالتطورات العلمية، إن العنصر الجمالي في لوحة «آنسات أفينيون» كان اختزال الأشكال أو ردها إلى الهندسة.

لم تكن طريقة العمل الشخصية لكل من الرجلين متباعدة، لقد تفهما مبكراً عزلة الجهد الخلاق، وكما كتب أينشتاين بعد أعوام: «أعيش في العزلة التي تكون مؤلمة في الشباب غير أنها لذيذة في أعوام النضج «واستعاد بيكاسو» العزلة الفظيعة التي شعر بها أثناء العمل على آنسات أفينيون».

إن الإبداعين اللذين تحرى مؤلف هذا الكتاب نشأتهما هنا، أي نظرية أينشتاين النسبية الخاصة، ولوحة بيكاسو «آنسات أفينيون» هما العملان اللذان أدخلا العلم والفن إلى القرن العشرين، لكن بمعزل عن لحظتهما التاريخية، واستجابتهما المشتركة للتوتر بين التفكير القديم وغير القديم، فإن هذين العملين يتشاركان في رابطة أعمق، ففي لحظة الإبداع تختفي الحدود بين فروع المعرفة، يغدو علم الجمال هو الأعلى.

يتساءل المؤلف: لماذا كان بيكاسو وأينشتاين هما اللذان حققا هذين الاختراقين ولم تحققهما شخصيات أرسخ في الفن والعلم مثل ديران وماتيس ولورنتز وبالطبع بوانكاريه؟ ويجيب بأن الرجلين كليهما كان مغتنماً للفرص، وراغباً في استغلال أي إشارة تعرضها التيارات الفكرية التي يسبح فيها، كان بيكاسو الفنان الوحيد الذي تحلى بالشجاعة لاكتشاف أعماق الفن التصوري الإفريقي والأيبيري، ما تطلب الانتباه إلى مناقشات في الهندسة والبعد الرابع.

لم يكتب بيكاسو رسائل كثيرة، بل كان يكتفي بلقاء الناس، وكان يشكو من سيل الزوار باستمرار، كانت عاداته العملية تتصف بالثراء والتجربة الحياتية، وهو في عقده السابع، كان يفصلها بون شاسع عن عادات الفنان الشاب شديد التركيز والمفلس تقريباً، والذي رفض أن يفتح باب مرسمه المتداعي، عندما كان المنتظرون أصدقاء مقربين.

أما أينشتاين في ال26 فقد كان مختلفاً قليلاً، يعمل بتركيز شديد في الشقة المزدحمة بالبناية رقم 49 مع زوجة وطفل يضجان حوله، إضافة إلى اهتمامه بوظيفة مدة ثماني ساعات في اليوم على مدى ستة أيام في الأسبوع، إن أياً منهما لم يعد يكرس نفسه للعمل ذلك التكريس الكلي كما في تلك الأيام الحافلة بالاندفاع، ومهما كانت الآراء في أينشتاين وبيكاسو على المستوى الشخصي، فإنهما حققا نجاحات هائلة في ظروف استثنائية ومحبطة كان من شأنها أن توقع هزيمة تامة بأكثر الناس صلابة.

  • الفن والعلم

عندما كان بيكاسو يعمل على لوحته الشهيرة، كان يصغي إلى أحاديث موريس عن الهندسة والبعد الرابع، وليس مفاجئاً في الجو الفكري الذي ساد في 1905 أن يبدأ أينشتاين وبيكاسو في اكتشاف أفكار جديدة عن المكان والزمان، في وقت واحد تقريباً، إن أهم درس للنظرية النسبية في عام 1905 هو أننا لا نستطيع أن نثق بالحواس عند التفكير في هذين الموضوعين، لقد اعتقد بيكاسو واينشتاين أن الفن والعلم هما وسيلة لاكتشاف عوالم تتعدى الإدراكات، تتعدى المظاهر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ywmzm969

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"