لا الفضة ولا النحاس تكفيـــان لنحـــت تمثــال

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

ربما، لم يعد أحد يتذكر الآن جبرا إبراهيم جبرا، ولو من باب الحنين الذي يولد عادة من الصداقة، فأصدقاؤه مثله كلهم في الغياب، وقد جاء هذا المثقف المقدسي من فلسطين إلى العراق قبل أكثر من سبعين عاماً، وفي بغداد أصبح ظاهرة ثقافية مُرحباً بها في بلاد الرّافدين: شاعر، مترجم، روائي، ناقد أدبي، ناقد تشكيلي، يعرف الإنجليزية مبكراً حتى بلغة شكسبير، فأصبح فلسطينياً من أصل عراقي، وعراقياً من أصل فلسطيني، مثلما يعبّر الكثير من الأردنيين والفلسطينيين عن وحدتهم الوطنية والوجدانية بقول الواحد منهم: أنا أردني من أصل فلسطيني، وفلسطيني من أصل أردني.
عدت إلى جبرا بلا مناسبة، وقد التقيته مرة واحدة في الشارقة حين نظّم اتحاد كتّاب وأدباء الامارات ندوة نقدية في أواخر الثمانينات حول القصة القصيرة في الإمارات، ويذكر من حضر أو شارك في تلك الندوة كيف احتفى جبرا بمجموعة «عشبة» للكاتبة الإماراتية سلمى مطر سيف، وآنذاك، كان جبرا علماً ثقافياً في النقد والترجمة والكتابة عموماً، ومجرّد أن يُعطي رأياً نقدياً إيجابياً بكاتبة شابة أو كاتب شاب، فهو امتياز، وأيّ امتياز من جانب قلم في حجم مثقف عربي متعدد المرجعيات والينابيع الفكرية والأدبية.
تذكرت صاحب «صيّادون في شارع ضيق» وصاحب رواية «عالم بلا خرائط» بالاشتراك مع عبدالرحمن منيف حين أنهيت مؤخراً قراءة كتاب «آفاق الفن» لألكسندر إليوت الذي نقله جبرا إلى العربية، وصدرت طبعته الأولى في بيروت في العام ١٩٦٤ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حين كان مقر المؤسسة آنذاك في بناية برج الكارلتون (ساقية الجنزير). مرة ثانية من باب الحنين..
إليوت الناقد الفني الذي نقله جبرا إلى العربية ليس هو إليوت الشاعر الأمريكي/ الإنجليزي.. صاحب «الأرض الخراب»، كما قد يتداعى إلى البعض، وهنا يصرّ الناقد والمثقف الكبير عبدالواحد لؤلؤة على أن الترجمة خطأ وأنها (الأرض اليباب) وليست (الأرض الخراب).
حين صدرت ترجمة ذلك الكتاب المهم «آفاق الفن»، كنت في نحو العاشرة من عمري، وقراءته في مثل عمري الآن ترمز إلى نحو ما إلى أن إليوت وجبرا ما زالا بيننا بذلك التوهج الفكري والنقدي واللغوي، وأن الحياة تتجدّد.
حين أقرأ كتاباً قديماً لكبار من طراز جبرا أتمثّل نفسي من ذلك الزمان، زمانهم، الذهبي بالطبع، فلا الفضة ولا النحاس تكفيان فقط لنحت تمثال، وفي القراءة أيضاً، يتقمَص المرء الذي يعيش في زماننا روح كائن بشري يعيش هناك، قبل مئة عام مثلاً، حيث كان مقتل فرد واحد حدثاً يهزّ البدن، حتى لو كان في حادث سير.
جبرا إبراهيم جبرا (القديم ما بيعتق).
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3wv4wzek

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"