«العربجي».. ومقهى ريش

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

عدت إلى مصر العشرينات والثلاثينات من النصف الأول للقرن العشرين ليس عن طريق الذاكرة أو أفلام الأبيض والأسود، بل، بعد قراءتي «مذكرات عربجي» للفنان سليمان نجيب التي كان ينشرها في مجلة «الكشكول» أوّل صحافة للكتابة الساخرة التلقائية غير المفتعلة في العام 1921 وأوّل من أصدرها سليمان فوزي، وهي أيضاً أوّل صحافة يظهر فيها فن الكاريكاتور.

كتاب صغير «مذكرات عربجي» في 100 صفحة فقط من القطع الكبير وعمد فيه الفنان سليمان نجيب الذي عرفناه في فيلم «حنفي أبو محمود».

تعود بك هذه الكتابة الساخرة المبكرة إلى مصر (الملاية اللف)، ومطعم «سلستينو» في التوفيقية، و«كافيه دي لابيه».. غير أن قارئ العربجي (وما هو بعربجي) بوسعه أن يحدد خيل ذلك الكاتب الساخر وهي تحوم أكثر ما تحوم حول (مقهى ريش)، وكان آنذاك في العشرينات والثلاثينات يسمى (كافيه ريش).

في إحدى نقليات العربجي يقول: «ركب معي يوم الجمعة من كافيه ريش محامٍ تخرّج حديثاً شاب أعرف عنه من إخوان الصفا المدردحين.. الذين حفظوا القانون لاتقاء الوقوع في براثنه، ومعه موظف مسنّ من وزارة الأوقاف».

يستمع العربجي للأحاديث التي تدور وراءه في العربة التي تجرّها خيوله، وفي ذات يوم سمع ما يلي: «بقى أنا أصدق أن حنفي ده عربجي، دَهْ على كيفه، طيّب وشرفك يا خويَه أنا أعرف موظفين إذا كتب الواحد منهم إفادة بسيطة بَسْمَل وحوقل وقرأ آية الكرسي».

وفي يوم آخر ركب أحدهم مع العربجي، وأمره بالمرور على (كافيه دي لابيه)، وقال له: «نفوت على كافيه ريش ومن هناك نأخذ معنا الخواجة فيكتور، فقال له: ما فيش لزوم يا خواجة معانا الأسطى حنفي، منّا وعلينا. راجل يقرأ ويكتب على ذوقك».

يقول العربجي: «أمرني الخواجة أن أقصد مقهى ريش لتناول «الابرتيق». تناولوه سائغاً لذيذاً، وأثناء ذلك لعب الأب فيتا مع الشاطر حسن ثلاثة «برتيتات» طاولة. لطش فيها من السبعين جنيهاً خمسة عشر».

وفي مكان آخر إليك هذا المشهد الليلي في قاهرة العشرينات والثلاثينات في محيط مقهى ريش.. «ابتدأ الليل يرخي سدوله على القاهرة، وأنا في طريقي من الجيزة آتياً من سكة الأهرام»، و«دخلنا شارع سليمان باشا، وسطعت أنوار الكلوبات، ومررنا على مقهى ريش، وليس فيها كرسي لجالس».

على بساطة هذه الكتابة الشعبية، إلّا أنها تحمل في الوقت نفسه عمق وروح تلك الطبيعة الشعبية للناس وللحياة في مصر قبل نحو قرن من الزمن والزمان، كانت فيهما القاهرة تشهد ولادة البدايات الأولى للصحافة، والسينما والغناء والموسيقى.. كل شيء كان مثل قلب ذلك العربجي سليمان نجيب الذي أنعم عليه الملك فاروق بلقب (بك)، البيك الذي لم يتزوّج، ولم تكن له عزبة ولا أطيان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5n7rewvd

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"