عادي

«عصر الانحطاط» يراوغنا بألف قناع

20:32 مساء
قراءة 3 دقائق
«عصر الانحطاط» يراوغنا بألف قناع

القاهرة: «الخليج»

«تكمن الأزمة تحديداً في حقيقة أن القديم يحتضر، وأن الجديد لا يمكن أن يولد، وفي هذه الفترة التي تفصل بين نظامين، يظهر عدد هائل من الأعراض المرضية» هكذا كان جرامشي يقول، لكن روس داوثت في كتابه «المجتمع المنحط.. كيف صرنا ضحايا نجاحاتنا؟» (ترجمه إلى العربية أنس محجوب وعبد المنعم المحجوب) يرى أن كل شيء جيد، سيئ في الوقت نفسه، كل مسألة تعرض للتفكير هنا تصبح سيفااً ذا حدين، فالتقدم العلمي مثلاً، إما تطور مجد على المدى البعيد، وإما ابتكار عبثي، الهجرة إما أن تطعم المجتمع، وإما أن تقود إلى خلل اجتماعي ثقافي.

يطبق داوثت الرؤية نفسها على الكثير من مفردات الحياة: مدى العمر، والعلاقة، الهوية، الثقافة، التاريخ، الدين، الرغبة، الحلم، وصولاً إلى مستقبل ما، لم يعد ممكناً توقعه، فكل ظاهرة أو انتقال أو تطلع أو ابتكار أو دعوة أو رغبة، كل شيء باختصار يقع بين حدين: «إما.. وإما» كل فكرة تحمل نقيضها.

يوضح المؤلف أن «المجتمع المنحط» لا يستوجب الإدانة، ولا هو أمر يدعو إلى الفخر، ليس متردياً مقبلاً على الفناء، ولا هو مزدهر، أنجز كل ما يجب، يريد المؤلف أن يقول: نحن البشر الذين يعطون هذا المجتمع طبيعته، ويشكلون زمنه، البشر الذين يسعون إلى تحقيق الأفضل في صراعهم مع النهايات الحتمية.

كثير من القضايا التي يعرضها الكتاب لا يمكن التفكير فيها، إلا من خلال طبيعتها الشاملة، وتأثيرها في العالم بأسره: تغيرات المناخ والتعداد السكاني، أو الموارد الطبيعية واستغلال الطاقة أو الهجرة والتحولات الدينية، وحين يقوم المؤلف بالتأسيس لمصطلح «المجتمع المنحط» فإنه يرى أن الكلمة فضفاضة غير ثابتة في الثقافة العامة، بل تستخدم بطريقة متداخلة، ونادراً ما يتم استخدامها بدقة، وفي ذلك جزء من جاذبيتها وسحرها.

كانت كلمة «المجتمع المنحط» تتوزع بين دلالات عامة غير مؤكدة: انتشار الأخلاق المتدنية، وحب المتعة والمال والشهرة، ويبدو هذا التعريف جزئياً، ولا يفي بدلالة الانحطاط، وهناك أيضاً صورة أخرى من صور الانحطاط شائعة في الخيال الشعبي، وهي الارتباط بالشراهة، وهذه صورة جزئية أقرب إلى التفسخ والانحلال الاجتماعي، منها إلى الانحطاط.

وقد تعبر كلمة «منحط» في الثقافة الشعبية عن الاستحسان، ولا يتردد المؤلف عن تكرار أن هذه المعاني شائعة في «الثقافة الشعبية» أو «الخيال الشعبي» لينتقل سريعاً إلى نوع من تكثيف معنى «المنحط» وتركيزه كما استخدمه في هذا الكتاب.

الوصف ب«منحط» كما يشير المؤلف يمكن أن يشير إلى جمالية ما أو إلى فلسفة معينة في القرن التاسع عشر، مثلاً، للحديث عما فيهما من ابتذال ولا جدوى، ويأخذ «المنحط» معنى التقهقر، والانحطاط حالة مستمرة من الابتعاد عن صورة الكمال، المتخيلة أساساً، أما المعنى الأخير الذي يشير إليه، فهو ذلك المزيج من الشعور بالإرهاق والسعي إلى بلوغ الكمال في آن.

كلمة «انحطاط» – كما يوضح المؤلف - لا تعني انتشار الأخلاق المتدنية وحب المتعة والشهرة والمال، بل يمكن استعارة معنى حضاري لها، كلما خرجنا عن الاكتفاء بوصف شيء ما بالانحطاط، والمقصود هنا إحالة مادية إلى وصفه كذلك في وجوده، هنا والآن، أي بتضمين الإحالة الوجودية التي تشمل الجوانب المادية بالطبع، وتستجلب في الوقت نفسه السمات الثقافية والجمالية والاجتماعية والتراثية والدينية والسلوكية من جهة، والسياسية والصناعية والعلمية من جهة ثانية.

يعمم المؤلف كلمة «انحطاط» على طيف واسع: الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والعلوم، والخيال العلمي، والطب، والبيئة، والأدب، والفن، حتى الترفيه وتزجية أوقات الفراغ، ويضمنه التعثر ومحاولة النهوض، مع عدم الاعتراف بقابلية السقوط، وهو يعني سقوط المجتمع الأمريكي قبل كل شيء آخر، الانحطاط في تحليل المؤلف هو عملية مستمرة ومتغيرة، لا مجال فيها إلى تحديد نهاية صارمة أو الإقرار بالمصير، فهو يخلص إلى أن المفهوم في حد ذاته قد يخلو من أي حكم حتمي.

المجتمع المنحط بهذا الفهم هو مجتمع متحرك، بالرغم من مظهر الركود، متفاعل، بالرغم من مظهر العزلة، مرن، بالرغم من مظهر التصلب، يسير إلى الأمام، بالرغم من مظهر التكرار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/y9mjurp5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"