المفكر الفرنسي غابرييل رانجليه يحمد الله، كما يقول، في كتابه «إنجيل مفكّر حرّ»، دار الفرقد 2020، ترجمة: فاروق الحميد، على أنه كان على الدوام يقف في الوسط بين الإنجيل والحياة المعاصرة، بين البحث النظري والتعميم العلمي، بين الكهنوت، كما يقول، والخيال، وأخيراً بين المسيحية والعلمانية. ويقول، إنه قرأ الكثير من الكتب، وتلقّى الكثير من المعلومات، ولأشد ما أثار حماسته وشغفه هو دراسته لما أحب.. فما الذي أحبّه رانجليه، واستند إليه في بحثه النقدي عمّا يشبه خلاصه الفكري في قراءته لظاهرة ثقافية، فلسفية مثل العلمانية؟ ثم، وأية ثقافة وأي فكر ديني أعانه بموضوعية على قراءة هذه الظاهرة؟
كل ذلك وجده في الإسلام، وجد في القرآن ما سمّاه دفق المشاعر الإنسانية «حين تسمع تلاوة من القرآن حتى ونحن لا نفهمه». ويقول: عبر قرون عدة امتدت إلى نهاية القرن الحادي عشر وجد الإسلام نفسه في علاقة مريحة مع الوعي النقدي والتحليل القائم على الفكر. ويتساءل رانجليه تساؤلاً استفهامياً لكنّ وراءه يقيناً ثقافياً لا غبار عليه قائلاً: أليس بفضل الإسلام استطاع الغرب التعرّف إلى الفكر اليوناني؟
هذه اليقينية الفكرية لم تأتِ على لسان مفكر عربي أو إسلامي. إنها حقيقة مفكر فرنسي قادم من قلب المركزية الأيديولوجية الأوروبية أو الغربية، لكن كل ذلك لم يمنعه من قول الحقيقة أو الخوف منها، وبخاصة في بيئات غربية تصادر الفكر اليوم، وتعبئ إعلامياً وثقافياً ضد الإسلام بشكل خاص. ينطلق رانجليه أيضاً في موضوعيته الفكرية هذه من حقائق العلم وحقائق التاريخ. يقول: «لنتذكر الطبيب الكبير والفيلسوف ابن سينا الذي لم يترك علماً في زمنه إلاّ ونهل منه ما استطاع، ولنتذكر أيضاً بعد قرن من الزمن ظهور أول شروح أرسطو في الأندلس التي عرفت، كما يقول، كيف تضمّ بين جوانحها الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية». وبالطبع لا يخفى على القارئ أن الأندلس تلك التي يقصدها رانجليه هي أندلس الثقافة العربية والإسلامية. أندلس العلوم والفنون والانفتاح والجمال الأدبي والمعماري الذي قام على عقول وأيدي العرب قبل مئات السنوات.
يرى رانجليه أن الإسلام يتطور أكثر مما نتخيل (أي بالنسبة للأُوروبيين)، بل وأكثر من ذلك وأكثر جرأة يتساءل حول إمكانية تدريس القرآن في المدارس الجمهورية (يقصد الفرنسية بالطبع)، وأن نعرّف، كما يقول، بشخصية محمد التي وصفها بِ (الفذّة).
هذه لغة وفكر كاتب أوروبي فرنسي، أدرك بعقله وقلبه وروحه الثقافة الإنسانية الرفيعة في روح الإسلام.
