عادي

إمام التسامح

23:32 مساء
قراءة 3 دقائق
1
سالم بن ارحمه الشويهي

د. سالم بن ارحمه

«اذهبوا فأنتم الطلقاء».. هذه أعظم وثيقة للتسامح أطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة، حينما ملك أمر من آذوه واتهموه باتهامات باطلة، ومكروا به، وكادوا له، وحاصروه، وضيقوا الخناق على أتباعه، وحاربوه وقتلوا أصحابه، وصادروا أموالهم، وخانوا وغدروا، وألبوا عليه العرب، وساموهم سوء العذاب.

وبرغم كل ذلك، لم يفكر النبي الكريم في الانتقام، أو الثأر منهم؛ فحينما دخل مكة فاتحاً نادى أحد الصحابة: «اليوم يوم الملحمة»، فصحّح له النبي، صلى الله عليه وسلم، النداء بما ينسجم مع وحي السماء فقال: «اليوم يوم المرحمة»، ثمّ نقل النظريّة إلى التطبيق، فوقف وهو في بهجة الانتصار، ومجد العزة والاقتدار، على رؤوس صناديد كفّار قريش، وزعمائها، وقد احتشدوا في المسجد الحرام وهم يترقبون منه أشد الانتقام، وبينما تدور المخاوف في رؤوسهم، وكادت أن تطيش قلوبهم، قال لهم بكل قوة واقتدار: «ماذا تظنون أنّي فاعل بكم؟»

أجابوه بكل ضعف وذلة وخوف:«خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم»، فقال صلى الله عليه وسلم عبارته المدوية عبر الأزمان: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وبهذه العبارة، أعلن العفو العام عنهم، فما كادت أن تطرق مسامعهم حتى دبت فهيم الحياة من جديد، وأمنوا بعد خوف شديد، وموت أكيد ودخلوا «في دين الله أفواجاً» لما رأوا من السماحة والرحمة والحق المبين؛ فأخلاقه، صلوات الله عليه، آية كبرى وعلم من أعلام نبوته العظمى، كما قال شاعره:

لو لم تكن فيه آيات مبيّنة... لكان منظره ينبيك بالخبر

فهو رحمة للبشرية قاطبة كما قال الله تعالى عنه: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

وأحسن شوقي حين قال في وصف عفوه، صلى الله عليه وآله وسلم:

وإذا عفوت فقادرا ومقدرا

لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب

هذان في الدنيا هما الرحماء

لم يَعرف النّبي الكريم الحقد، ولم تتسلّل إلى قلبه رغبة الانتقام من أعداء الأمس، على الرّغم من الأذى الشّديد، والصدّ الكبير الذي تعرّض له من قبل قومه في بداية دعوته، بل كان مثالاً في العفو والتسامح متمثلاً قوله تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم».

لقد كان فتح مكة فتحاً لآفاق من الخير ومثالاً للتسامح والعفو عند المقدرة. فكان ذلك سبباً في إسلام الجم الغفير

يقول أحد الغربيين: «ليفخر المسلمون بأن نبيهم لما فتح مكة لم يؤذ أحداً على ما كان عليه أهلها من العداوة والحروب ضده».

شهد الأنام بفضله حتى العِدا

والفضل ما شهدت به الأعداءُ

ومن أعظم مواقف التسامح للنبي، صلى الله عليه وسلم، أنه حين هاجر إلى المدينة المنورة طبق مبدأ التسامح من أول أيامه، فهادن يهود خيبر، فشملهم ما شمل المسلمين من التمتع بجميع الحقوق حتى نقضوا عهدهم. ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم النبي، صلى الله عليه وسلم، في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه.

ويتجلى تسامحه كذلك في معاملته، صلى الله عليه وسلم، لأهل الكتاب، يهوداً كانوا أو نصارى؛ فقد كان له جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببره ويهديهم الهدايا ويتقبل منهم هداياهم.

وكان يزوروهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم. كما عاد خادمه اليهودي، ومرت عليه جنازة فقام لها، صلى الله عليه وسلم، واقفاً؛ فقيل له: إنها جنازة يهودي؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «أليست نفساً؟»، فما أروع الموقف وما أجمل التفسير والتعليل.

و«توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام أهله»، وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا ليضنوا عليه بشيء؛ ولكنه أراد أن يعلم أمته التعايش والتسامح، فهو، كما عرّف عن نفسه ورسالته: «إنما أنا رحمة مهداة».

نورٌ أطلّ على الحياةِ رحيما وبكفّهِ فاضَ السّلامُ عمِيما

لم تعرِف الدُّنيا عظيمًا مثله صلّوا عليه وسلّمُوا تسلِيما

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/t9ktarfc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"