سراج خيري منصور

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

.. لم يترك خيري منصورالكثير من الكتب وبخاصة في الشعر، ولكنه علامة أدبية عربية لها خاصّيتها الثقافية والمعرفية وهو الذي كان يقرأ مثل طبيعة دودة القز والنحلة، حرير وعسل، لكنهما مخلوطان بشيء من المرارة أو الملح، وإلّا، لما استطعت أن تلمح ذلك الضوء الرمادي في عينيه حين يتذكر قريته (دير الغصون) لا على طريقة الرومانسي الحزين الذي يكذب في العادة، بل، على طريقته هو، وهي ببساطة على شيء من طريقة الصّوفي الذي لا يدّعي أنه الحق، ولا يزعم أن في ثيابه كائناً آخر غير خيري منصور.

ربما هي المرة الأولى التي أحصل فيها على مجموعة شعرية صغيرة له بعنوان (سيرة خاطفة)، «دار ميريت في القاهرة 2004»، وهي مجموعة قصائد قصيرة تماماً كل قصيدة في حجم دمعة، مع أن الذي كان يعرف ابن دير الغصون عن قرب يكاد يجزم بينه وبين نفسه بأن الرجل لم يبك مرة واحدة في حياته، بل كانت صورته الشخصية مباشرة تماماً،.. شيء من الكبرياء لا الغرور، على قلة في الضحك، وإصغاء خاطف.

زاملته في جريدة الدستور في العام 1996، وكان يأتي إلى الجريدة في وقت العصر تماماً، له مكتب خاص صغير يفوح دائماً برائحة العطر، ونادراً ما رأيته يكتب هناك، ليمكث في الجريدة حوالي الساعة، ثم يهبط إلى وسط البلد، عمّان العاصمة، يأكل في مطعم القدس القريب من كشك أبوعلي، وفي جزء من نهاره هذا يذهب إلى الأسواق الشعبية، يبحث عن ولّاعة نادرة أو قلم أو بعض الخرز الملوّن، وكل هذا أظنه كان شيئاً من سيرته الخاطفة، ولسوف يرحل، فجأة، ورويدا رويداً تتلاشى رائحة العطر من المكتب الصغير..

لماذا أكتب الآن عن خيري منصور؟؟.. لأنني لم أحسن معرفته جيداً، وربما كنت أخشى الاقتراب منه كثيراً، لكي لا أتأثر بجاذبيته المحيطة به دائماً، ولو قليلاً..

حين قرأت (سيرة خاطفة).. عرفت كم كان في قلب خيري منصور من الحزن، والطفولية والمكابرة، كان يحيط نفسه بكبريائه وصوته العالي، ربما، لكي لا يسمح لأحد باختراق تلك القشرة حول دودة القز، ولكي لا يطعم أحد تلك النحلة من الشوك، الأرجح، أنه شوك مرّ..

لم يكن خيري منصور ليبكي ذات يوم. ربما يجهش ويغصّ حلقه بملح دموعه، لكنه، لا يبكي، وإلا ما كان له أن يكتب شعراً في مثل هذه الحرارة الحمراء وهو يتحدث عن والده:.. «.. أيها القادمون../.. إذا عثرتم على زهرة لها أظافر../.. ويلمع في ساقها خاتم فضّي../.. حذار من قطفها../.. فهي يَدُ أبي..».

يعرف خيري منصور كيف يكثّف دموعه على شكل حبيبات من الكريستال الساخنة، بحيث لا تتساقط، بل تتلاقى هذه الحُبيبات في عنقود من الضوء هو بالتأكيد سراج بيت أبيه المهجور في دير الغصون..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4nvnfvx9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"