شعب عرفات الأبيض

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

أكثر من مليوني حاجّ وحاجّة على صعيد عرفات جاؤوا إلى جبل الرحمة والمساواة والإنسانية من أعراق وألوان وقوميات وأطياف ثقافية عديدة، لكن الدين واحد، والمكان واحد، واللون واحد، اللون الأبيض.. الذي لا يرمز إلى عنصرية أو تفاضلية أو تفاوتية أو تمييز. لون ثياب الشعيرة، وثياب التساوي وثياب السماء الواحدة.

شعب عرفات الأبيض. شعب الجبل في لحظة روحية عميقة، ودلالة قدسية سماوية.. الفقير إلى جانب الغني. الشعبي البسيط صاحب العلم المحدود والمعرفة المحدودة إلى جانب المثقف وحامل الدرجة الجامعية العليا. الشمالي إلى جانب الجنوبي، والشرقي إلى جانب الغربي، ابن ثقافة القرية إلى جانب ابن ثقافة المدينة. بياض قلباني كلّي تتلاشى في حضرته المكّية القدسية فوارق المال والعشيرة والقبيلة والسلطة والنفوذ. فقط جملة دينية واحدة بلسان عربي واحد وبأصوات مليونية يوحّدها النطق والمنطق والقلب.

خشوع مُطلق، خَفَر ديني عميق. طمأنينة شاملة،.. لا غضب، ولا تذمّر، ولا عصبية.

لا نميمة، لا حسد، لا استهزاء ولا استكبار في هذا المدى المجتمعي الأبيض.. الأبيض من القلب إلى الرّوح، ومن المعنى إلى الرمز، ومن الفكرة إلى الدلالة ضمن ثقافة لا تتجزأ، وضمن فكر لا يتعصّب، ولا يتطرّف، ولا يُلغي أو يستعلي أو يكابر.

صورة بيضاء صافية طاهرة أمام العالم كلّه أن هذا هو دين هذه الشعوب التي ذابت في مشهد ربّاني موحّد. أن لا إرهاب أن لا شطط أن لا شَرَه، أن لا طمع، أن لا جشع، أن لا استحواذ، أن لا استغلال، أن لا كراهية..

رمزيات الحج، وثقافته وصورته الوجودية درس ثقافي، وأخلافي، ونفسي، وتربوي وروحي، درس يتكرر مرة كل عام، هكذا بشفافية وشعائرية هادئة، وروحانية كاملة من دون حاجة إلى إعلام ودعاية وتبشير. الصورة البيضاء تقدّم دلالاتها وإشاراتها المعرفية والأخلاقية بلا مهرجانية أو احتفالية أو استثمار. فقط الإنسان وهو في ذروة اتحاده مع ربّه ثم مع نفسه... تلك النفس التي تخلّت كلياً عن السوء، فلا تأمر صاحبها إلّا بالرفق والمحبة والجمال.

رداء الحج الأبيض، والقلوب بيضاء في هذا التآلف الاستثنائي حقاً بين كل ثقافات وديانات الأرض التي عمّرها الإنسان بتلك الثنائية الفطرية في داخله: الرّوح والمادّة..

مادّة هذا البياض هي التعادلية، والتوازن، والامتلاء الكلّي بالله الذي خلق الإنسان في أحسن تكوين، وقال له أول ما قال:.. اقرأ، وارحم نفسك كما وارحم أخاك،.. ولا تهبط من فوق هذا الجبل الأبيض إلى تاريخ الوحش والطاغية.. لا تكن سيّداً من سادة الاستبداد، ولا تخدش بياضك هذا بفحمة، أو قطرة دم..

يكفي العالم هذه اللحظة البيضاء، لكي يهدأ قليلاً، ويخفف من غلواءِ اندفاعه إلى جحيمه الذاتي الذي صنعه بالقوّة الغاشمة، قوّة العقل الذي يتغذى على الشرّ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ye2885xs

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"