التـقـليـد.. في الـديـن والمجـتـمـع

01:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإلـه بلـقـزيـز

لـمـا كـانت الأديـان تـتـجـلّى، وجـوداً وأثـراً، في مادّةٍ هي المجتمعـات؛ وكـانتِ الجماعات مـوْطـنَ الـديـن ومجالَ اشتـغاله، كان لا بـد للـدّيـنيّ - إذن - أن يـتـرك أثـره العميـق في تـفـكير الجماعة التي تـعـتـنـقـه، كما في سلوكـها الحياتـي. لا تـتـعـلّـق الملاحظة هـذه بالأديان التي فيها شـرائع تـتـناول أدق تفاصيل الحياة بالأحكـام الشرعـيـة؛ كما هي الحـال في اليـهـوديّة أو - إلى حـد مـا- في الإسلام، بل حـتـى بالأديان التي لا تـنـص على شـرائع ولا تـتـدخـل أحكامـها في تفاصيـل حياة المؤمـنيـن: كما هي الحال في المسيحـيـة وفي أكـثر الأديان الآسيوية. هذا يعني أن أثـر الـدّيـنيِّ في الاجتماعـي لا يعـود إلى النـص، في مـقـامٍ أوّل منـه، أو لا يعـود إليه وحـده على الأقـل، وإنـما تفـسـره عـوامـل أخرى من عالـم الجماعـة الـديـنـيـة وموروثـها التاريـخي.
ينـطبق هـذا، أشـد الانـطـبـاق، على التجارب التاريـخيـة للصّـدر الأول في كـلّ دين؛ أي للجيـل الأوّل من مـؤسِّسـي الأديان وتلامـذتِـهـم وأتباعِـهـم، المنـظور إليهم من حيث هُـمْ جِـيـلُ التـعاليـم الصـحيـح الذي ينبـغي أن يُـقْـتَـدى بـه . هكـذا تـتـحـوّل أقـوالُ هـذا الجِيـل الأوّل مـن المؤمـنيـن وأفـعالُـه إلى بـرنامجٍ إرشـاديّ يوجـه السلوك الجـمْـعي للجماعـة الاعـتـقاديـة في أدوارها التـاريـخيـة كـافـة. أمّـا لماذا يكـون عمـلُ أهـل الزّمـان الأولِ من كـل ديـنٍ عظيـمَ الأثـر في الجمـاعـات الـديـنـيـة إلى هذا الحـدّ؛ فـلأنّ أتـبـاع الأديـان كـافّـة يسـكنـهـم اعـتـقـادٌ قـطـعيّ بأنّ أهـل ذلك الزّمـان أقـدرُ من غـيـرهـم، مـن اللاحـقـيـن عليـهـم، على تـمثـيل صحيح الـدّيـن وتجسيـدِه؛ فـهُـمُ الشّـهـود على مـؤسِّـسيه من الأنـبـيـاء أو على مَـن عاصر الأنبياء وأخَـذ عنهم؛ وهُـم مَـن يُـدركـون - على التّحـقيـق- أحكـام الـديـن التي فُـسِّـرت لهم من تـلامـذة الأنـبـياء؛ وهُـم مـن يـعرفـون كيـف كـانت تُـمارَس الشـعائـر وكيـف كـان السـلوك الجـمْـعي... إلخ. وبكلـمـة؛ إنّ الجيـل هـذا هـو النّـمـوذج المرجـعـي للجماعـة ومسـتـودعُ حـقائـق ديـنـها.
على أنّ الأمـر لا يتوقّـف عنـد الجيـل الأوّل حصـراً، بل يتـعلّـق بـــــمـن يــــليه وبـمَـن يلي الذي يليـه، وهـــــــــذا ما كـان عليه الأمـرُ في تاريـخ الإسلام الذي دُرِج فـــيه على التـميـيز بين جيـلٍ أوّل (جِـيل الصـحـابة) وجيـلٍ تـلاهُ (جِـيـل التـابعيـن) وثـالث سُـمِّـيَ تابـعـي التـابـعـيـن. لكـن الحـقـيـقة أن كـل جـيـلٍ في كـل جمـاعـةٍ ديـنـيّـة يـنـسُبُ إلى نـفـسـه خـصـالاً وقـيـمـاً أكـثـــــــر رِفـعـةً مـن تلك التي تسـود الجيل الذي يليـه، الأمـرُ الـــــذي تــتـــعـالى معـه صورتُـه في وجـدان مـن يـقـتــــــــدون بـه ويتـــــــحـــــوّل إلى سلـفٍ صالـح لِـمـن يـأتـي بعـده. بـهـذا التــــوالي للخبرة التـاريـخـيـة لدى أجيـال الجـــــماعات الـــــديـنـيـة تـنـتـقـل آثـارُ الـديـنـيّ في الاجتـماعـي، بل يـمـكـن القـول - مـن غيـر كبـيرِ تـردد - إن معظـم القــــــيـم الـديـنية في المجتمعات كـانت تـنـتـقـل عبـر هــــذه السلسلـة من تأثـير السابـق في اللاحـق من الأجيـال أكــــــثـر ممـا كـانت تـنـتـــــــقـل بالمقروءات والــــــتـعـلّـم مـن النـصـوص. هـذا هـو، بالضـبـط، ما كـــــان يعـنـــــيـه المـأثـــــور التـاريــــــــخـي - الذي ينـــــــطـبـق على كـل جـيـلٍ، والذي أشار إليـه القـرآن الكــــــريــــم في «سورة المائــــــدة» («... قالوا حسْـبُـنا ما وجَـدْنَـا عليه آبـاءَنـا») - من مفـعــــــولٍ شـديـدٍ لأثــرِ الموروث الـدّيـنـيّ المنـتـقـل إلى جيـلٍ من جـيـلٍ سـابـق.
هذه هـي، إذن، الآليـة التي يتحـوّل من خـلالها الـديـنـي إلى اجتـماعـيّ يتـشـبّـع بـه السـلوكُ الجـمْـعيّ ويـتـكرّس بوصـفـه تقـليـداً راسـخـاً، في الوجـدان والأفـعـال، بحيث لا يتبـدّل مع الزّمـن. وإذا كان معنـى التّـقـليـد، في العـلـوم الاجتماعيّـة، يـرادف استـمـراريّـةَ الظّـاهـرة في الزّمـن وتكـرارَها على الهيئـة عـيـنِـها على نحـوٍ لا يَـطْـرقـه تـبـدُّلٌ، فهـو معـنـى سـيـتكـرّس أكثـر حين يُـرْجَـع بذلك التّـقـليـد إلى أصلـه الـديـنـي؛ أي حيـن يُـدْرَك أنّـه في الـدّيـن نَـشَـأَ وعلى أساس مبادئـه. على أنّـه سرعـان ما ينسـى النّاس، بتـوالي الأزمنـة، النّـسب الـديـنـي لكـثـيـرٍ مـن تقـاليـدها التي دَرَجَـتْ عليـها فلا تعـود تـرى فيها سـوى ما هـو اجـتـماعـيٌّ أو مجـتـمعـي تــتمـيّـز به من غيـرها. وهذا يؤدّيـنـا إلى أن نـلاحظ ما في الاجـتـماعـيّ نـفـسِـه من قـدْرٍ مـن الحُـرم يُشـبـه - أو يكـاد يُشـبـه - ما في الـدّيـنـيّ مـن مقـدّس. ولـولا هـذه المساحـة من التّـقـديس في الـدّيـنـيّ، لَـمَـا أمـكـن للتّـقـليـد أن يستمـرّ في الزّمـن؛ سـواء كان مَـبْـناهُ على مـبـدإٍ ديـنـيّ أو مـبـدإٍ دُنْـيـائـيّ.
لـقـد قـلـنا، في مناسباتٍ عـدّة، إن الـدّيـن - أيّ ديـن - يستـمـد وجـوداً في التّـاريـخ ويتـرسّـخ أكـثـر كـلّـما تَـجـسَّـد في جـمـاعـةٍ اعـتـقـاديّـة تسـتـبـطـنـه وتــتـشـبّـع بـه، ثـمّ تـنـقُـل قـيـمـه إلى أجيالها اللاحـقـة. هـذا، بالـذّات، معـنـى القـول إنّ الـدّيـنـيَّ يصيـر اجـتـماعـيّـاً، أو قُـل إنّ المجـتـمـع يُصـيّـرُه كـذلك. وهكـذا يـتـمـظـهـر المعـطـى الـدّيـنـيّ في شـكـل سُـنّـةٍ لا تـتـبدّل، تَـسـيـر على هـدْيـهـا الجمـاعـة فـتحـسـب - مع الزّمـن - كـلَّ خـروجٍ عـنـها أو انـزيـاحٍ بـدعـةً أو هرطـقـة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5ysu4z73

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"