رواد مكافحة الإسهال

مقال
03:37 صباحا
قراءة 5 دقائق

علاوة على الدمار الذي أحدثه في هايتي زلزال يناير/كانون الثاني، وإعصار توماس هذا الشهر، وما أعقب ذلك من تشوش واضطراب، وتعرض للأمراض، وسوء التغذية، فإن البلاد تشهد الآن انتشار وباء الكوليرا . وفي الوقت الحالي هناك ما لا يقل عن 8000 من المصابين بالكوليرا في المستشفيات، وبلغ عدد الوفيات نتيجة للإصابة بهذا المرض البكتيري الذي يحمله الماء نحو .600 ونظراً لعدم توفر مياه الشرب النظيفة على نطاق واسع، والافتقار إلى المرافق الصحية والطبية الأساسية، فإن الأرقام سوف تتزايد بلا أدنى شك .

وحتى في غياب الكوارث الطبيعية، فإن الإسهال يُعَد المرض المعدي القاتل الثاني بين أشد الأمراض فتكاً بالأطفال تحت سن الخامسة في البلدان النامية (ولا يتفوق عليه في فتكه سوى أمراض الجهاز التنفسي)، حيث يحصد أرواح مليوني شخص سنويا . ولكن بفضل ابتكار بسيط ولكنه شديد البراعة، توصلت إليه شركة ناشئة في مجال العلوم الحيوية، فإن هذه الأرقام من الممكن أن تصبح أثراً من الماضي، كما حدث مع الوفيات الناجمة عن الجدري والطاعون الدبلي .

ومنذ ستينيات القرن العشرين، كانت الرعاية الأساسية المقدمة للأطفال المصابين بالإسهال في بلدان العالم النامي عبارة عن محلول لعلاج الجفاف يتألف من سائل غني بالصوديوم في قاعدة من الجلوكوز ويعطى بالفم . وكان هذا المنتج البسيط ثورياً في النتائج التي حققها، فقد أنقذ أرواح عدد لا يحصى من البشر وقلل من الحاجة إلى الإقامة المكلفة (وغير المتوافرة في كثير من الأحيان) في المستشفيات ومحاليل علاج الجفاف التي تؤخذ عن طريق الحقن بالوريد .

بيد أن هذا المنتج لم يكن مفيداً في التخفيف من حدة الحالة أو تقليص مدتها، وهو الأمر الذي أدى بمرور الوقت إلى سوء التغذية، وفقر الدم، وغير ذلك من المخاطر الصحية المزمنة . ولم تفلح طرائق أخرى للعلاج وتدابير الوقاية بما في ذلك تغيير السياسة الصحية العامة، وتحسين معالجة المياه، وتطوير اللقاحات في التوصل إلى نتائج ملموسة وفعّالة من حيث التكلفة .

وقد يكون الحل (بالمعنى الحرفي والمجازي) عبارة عن ابتكار عبقري وفي المتناول من فينتريا للعلوم الحيوية الذي يجمع بين مكونات بسيطة وعالية التكنولوجيا: وهو يتألف من بروتينين يمكن إنتاجهما بتكاليف زهيدة من الأرز ويسهمان بشكل جذري في تحسين فعالية محاليل معالجة الجفاف .

كان من المعروف لعقود من الزمان أن الأطفال الذين أرضعوا طبيعياً بالثدي يصابون بالإسهال وغيره من الأمراض المعدية بمعدلات أقل من نظيراتها لدى الأطفال الذين أرضعوا بوسائل صناعية . ولقد أثبتت الأبحاث في بيرو أن تعزيز محلول معالجة الجفاف الفموي باثنين من البروتينات الوقائية الأولية الموجودة في حليب الثدي، وهما اللاكتوفيرين والليزوزيم، يقلل من مدة الإسهال ويقلص من احتمالات تكرار الإصابة . ويُعَد توفير مثل هذا المحلول المعالج للجفاف لشعوب بلدان العالم النامي بمنزلة المعجزة .

وقد انضمت شركة فينتريا مع باحثين من جامعة كاليفورنيا وأحد المستشفيات الرائدة في علاج الأطفال وأحد معاهد التغذية في ليما ببيرو، لاختبار التأثيرات المترتبة على إضافة اللاكتوفيرين والليزوزيم إلى محلول فموي لمعالجة الجفاف في قاعدة من الأرز . ويوفر الشراب الجديد قدراً أعظم من التغذية التي توفرها في محلول الجفاف الفموي ذي القاعدة من الجلوكوز، فضلاً عن ذلك فإن مذاقه أفضل بالنسبة إلى الأطفال، وهو الأمر الذي يجعلهم أكثر استعداداً لتناوله .

وقد وجد الباحثون أن مدة الإصابة بالمرض لدى الأطفال الذين يتناولون محلول معالجة الجفاف الفموي في قاعدة من الأرز، والمضاف إليه اللاكتوفيرين والليزوزيم، يتضاءل من خمسة أيام إلى 7 .3 يوم . ويعتقد أن هذا التحسن راجع إلى التأثير المضاد للميكروبات الذي يخلفه اللاكتوفيرين والليزوزيم، وهما البروتينان اللذان نعرف عنهما منذ فترة طويلة أنهما من البروتينات الوقائية الأولية في حليب الثدي .

فضلاً عن ذلك فقد تبين على مدى عام كامل من المتابعة أن الأطفال الذين تلقوا المحلول في قاعدة من الأرز أصبح معدل تكرار إصابتهم بالإسهال أقل من النصف (8% في مقابل 18% في عينة الضبط) . وربما كان هذا التأثير راجعاً إلى اللاكتوفيرين الذي يعزز من إصلاح الخلايا المتضررة بالإسهال في الغشاء المخاطي للأمعاء .

وما يجعل هذا النهج في التعامل مع الإسهال مجدياً هو اختراع شركة فينتريا لأسلوب الهندسة الوراثية الذي يستخدم الأرز لإنتاج اللاكتوفيرين والليزوزيم . وهذه العملية التي أطلق عليها مسمى الصيدلة الحيوية تُعَد وسيلة غير مكلفة وبارعة لتركيب كميات كبيرة من البروتينات الضرورية . والواقع أن المدخلات اللازمة لزراعة نبتات الأرز هي ثاني أكسيد الكربون، والماء، والتربة، وطاقة الشمس، والناتج عبارة عن حبات أرز تحتوي على كميات كبيرة من البروتينات . وتتم معالجة الحبات لاستخراج وتنقية البروتينات، التي تستخدم بعد ذلك لتركيب محلول معالجة الجفاف المحسن .

والأرز ذاتي التلقيح، وهذا يعني أن التهجين مع أصناف أخرى من الأرز أمر يكاد يكون شبه مستحيل . ولكن لتخفيف هذه المخاوف الافتراضية اختارت شركة فينتريا أن تزرع أرزها في ولاية كانساس، حيث لا يزرع أي صنف آخر من الأرز .

وتحتوي البروتينات المستخدمة كمكمل لمحلول معالجة الجفاف على البنية والخصائص الوظيفية الموجودة في حليب الثدي الطبيعي، وهذه العملية مشابهة لتلك المستخدمة عادة لإنتاج البروتينات من كائنات حية أخرى، مثل البكتريا والخميرة . ولقد أصدرت لجنة تنظيمية من الخبراء قراراً مفاده أن هذه البروتينات آمنة عموما لإدراجها بين منتجات غذائية مثل محلول معالجة الجفاف الفموي .

إن النهج النموذجي قبل التسويق هو إخطار إدارة الأغذية والعقاقير في الولايات المتحدة بأن البروتينات المنتجة من الأرز تقرر أنها آمنة مثلها كمثل نظيراتها الطبيعية . وبعد ذلك لن تستغرق مراجعة الجهات التنظيمية أكثر من ستة أشهر . ولكن على الرغم من تقديم أول إخطار عن البروتينات الآمنة عموما إلى إدارة الأغذية والعقاقير في عام 2004 ثم أعقبته إخطارات أخرى، فإن إدارة الأغذية والعقاقير لم تتحرك على الإطلاق، وفي النهاية سحبت شركة فينتريا إخطاراتها في شهر مارس/آذار من هذا العام . ورغم أن الشركة قادرة على إنزال المنتج إلى الأسواق من دون موافقة إدارة الأغذية والعقاقير، فإن المخاطر المالية قد تكون باهظة .

كما واجه الباحثون في جامعة كاليفورنيا عقبات تنظيمية مماثلة عندما حاولوا إنتاج الليزوزيم في حليب الماعز المهندسة وراثيا . وكان الحل الذي انتهى إليه هؤلاء الباحثون يتلخص في نقل المشروع إلى البرازيل، حيث أحرز تقدماً كبيرا .

لقد دفعتنا الصيدلة البيولوجية إلى حافة التوصل إلى حل آمن وفي المتناول لواحدة من أشد المشكلات الصحية إلحاحاً وخطورة في بلدان العالم النامي . ولكن بفضل العراقيل البيروقراطية ربما يفوت الأوان بالنسبة إلى العديد من هؤلاء الذين سوف يصابون بأمراض الإسهال في هاييتي وغيرها من البلدان الفقيرة في الأسابيع والأشهر المقبلة .

إن الجهات التنظيمية وسلطات الصحة العامة لابد أن تسعى جاهدة في المطالبة بابتكار منتجات منقذة للحياة مثل اللاكتوفيرين والليزوزيم، ولكنها بدلاً من ذلك تلتزم الصمت المطبق، في هاييتي وأماكن أخرى من العالم، صمت القبور.

* طبيب وعالم في مجال البيولوجيا الجزيئية

المدير المؤسس لمكتب التكنولوجيا الحيوية التابع لإدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"