بريطانيا «التائهة» في عصر جونسون

04:16 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد عبد القادر خليل

يجابه رئيس الوزراء البريطاني الجديد، بوريس جونسون، تحديات مركبة على الصعيدين (الداخلي والخارجي). فالإقامة في 10 داونينغ ستريت لرئيس الحكومة الرابع عشر في عهد الملكة إليزابيث، يأتي في وقت تتراكم فيه الملفات الشائكة، التي تجعل من مهمة الرجل، الذي يتمتع بشخصية مثيرة للجدل، «شبه انتحارية»، ربما عبّرت عنها كلمات الملكة إليزابيث حين التقته بقصر باكنجهام قبيل تولي مهامه رسمياً؛ إذ قالت له: «لا أعلم لماذا يريد أي شخص منكم تولي هذه الوظيفة؟».
يأتي جونسون من خلفية صحفية، وهو لا يحظى بثقة الكثيرين من داخل حزب المحافظين ذاته، ومنهم من يعد أن بلوغه قيادة وزارة الخارجية في حكومة تيريزا ماي (2016 - 2018)؛ يمثل خطأ كبيراً. وأن منصب عمدة لندن، الذي شغله من عام 2008 إلى عام 2016، كان أقصى ما يمكن أن يصل إليه طموحه السياسي، وفق ما عبر عنه هو ذاته في إحدى المناسبات. ويأتي فوز جونسون بمقعد رئاسة الوزراء، بعدما اضطرت تيريزا ماي للانسحاب من رئاسة الوزراء؛ لفشلها في إقناع البرلمان بالموافقة على الاتفاق الذي توصلت إليه مع المفوضية الأوروبية بشأن البريكست، والذي صوت بالموافقة عليه نحو 52 في المئة من البريطانيين في استفتاء يونيو/حزيران 2016؛ وذلك بعد نحو خمسة عقود من العضوية الأوروبية.
ويمثل اعتلاء بوريس جونسون رئاسة الحكومة في هذا التوقيت تحدياً كبيراً له شخصياً بحسبانه لا يحظى بإجماع داخل حزب المحافظين، الذي بات يرأسه، ولا خارجه، محلياً أو أوروبياً. وثمة شكوك كثيرة حول قدرته على الحكم في وقت تعاني فيه البلاد انقسامات عابرة للأحزاب السياسية، وتجابه فيه قضايا شائكة على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن تصاعد المواجهة مع إيران؛ بعد احتجازها ناقلة نفط بريطانية.
لا ينفصل ذلك عما تواجهه الدولة من حالة عدم اليقين، واتساع نطاق القلق، في ظل إصرار جونسون على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، على نحو يدفع بمواجهة مع الاتحاد الأوروبي، وربما نحو أزمة دستورية داخلية مع تعهد المشرعين البريطانيين بإسقاط أي حكومة تحاول الخروج من الاتحاد من دون اتفاق مسبق.
وفي هذا السياق، يتزايد القلق البريطاني والأوروبي على حد سواء، ويتفاقم الخوف من تبعات سياسات جونسون المتوقعة مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما مع توالي تصريحاته الاستفزازية، بما لا يتلاءم مع المسؤوليات التي تقع على عاتقه، ولا ينسجم بالتبعية مع غزارة ثقافته، وسعة معرفته، وموهبة التعبير لديه، والتي لا تتلازم مع القدرة على النهوض بأعباء إدارة الحكم، حسب منتقديه، من النشطاء الموالين لأوروبا، والذين نظموا احتجاجات أمام البرلمان، رافعين شعارات منددة بتصريحاته وسياساته.
وفي هذا الإطار لا يزال زعيم حزب العمال، جيريمي كوربن، يشكك في شرعية جونسون معتبراً أنه لم يُنتخب سوى من قبل «ناشطي» حزب المحافظين. ويطالب كوربن بتنظيم انتخابات تشريعية جديدة، ويدعو إلى البدء في الاستعداد للتظاهر؛ للمطالبة بذلك. وربما يوضح ذلك مدى صعوبة تصور أن تحظى سياسات جونسون بإجماع، أو أن يغدو حائطاً صلباً في مواجهة رياح الانقسامات، التي باتت تتعمق في جنبات بريطانيا، ويبدو أن قدرته على إظهار ملكات القيادة؛ لإرباك الجميع وتبديل مقارباتهم حياله، ستتوقف على نجاحه من عدمه في إقناع اسكتلندا بعدم الذهاب إلى استفتاء آخر؛ بغرض الانفصال، بحسبانها لا تزال تتمسك بالبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهو وضع بات يسري على كل من أيرلندا الشمالية وويلز.
يعكس ذلك ربما أن أغلب قضايا بريطانيا، في الوقت الراهن، تتداخل مع قضية البريكست وأثرها في مستقبل العلاقة مع بلدان أوروبا، لاسيما أن الأغلبية منها تبدي معارضة لإعادة التفاوض بشأن «اتفاق الخروج»؛ وذلك وسط تحذيرات من خروج غير منظم. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، لرئيس وزراء بريطانيا الجديد بأن اتفاق الانفصال الذي وافقت عليه تيريزا ماي، يمثل الاتفاق الوحيد المقبول، حتى وإن اعتبره جونسون «غير مقبول».
هذا في وقت رفض فيه فريق جونسون الحكومي تحذيرات أوروبا، ملوحين ب«انفصال مؤلم». وفي تغريدة نشرها على «تويتر»، قال نوربرت روتجن، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني: «عزيزي بوريس جونسون، لن تفلح الخطب المتبجحة ولا التنمر في جعلنا نفرط في مبادئ الاتحاد الأوروبي ووحدته». وقال روتجن: «على العكس من ذلك، سنبقى هادئين»، وعبّر عن أسفه من أن «جونسون بأقواله وأفعاله يضر بالعلاقات البريطانية - الأوروبية؛ بعد أن قام بتعيين وزراء من المؤيدين لخروج بريطانيا».
وبينما يتصاعد التوتر السياسي بين الجانبين، فإن المخاوف بشأن الاقتصاد البريطاني تتفاقم، في ظل اتهامات توجه لجونسون بتهديد الوضع الاقتصادي للدولة؛ عبر السياسات القائمة على التصعيد مع أوروبا. وتتسم المخاوف بشأن خروج بريطانيا صاحبة خامس أكبر اقتصاد في العالم من الاتحاد، بأنها عابرة للأحزاب، وتشمل «المحافظين» قبل «العمال».
وفي هذا الإطار قال زعيم حزب العمال جيريمي كوربن: إن الخروج من دون اتفاق يعني الاستغناء عن موظفين وعمال، وارتفاعاً في أسعار السلع، وعودة الإجراءات الجمركية مع أوروبا. ويقول منتقدو جونسون إن «خروجاً عشوائياً» من شأنه تقويض النمو العالمي، والضغط بشدة على أسواق المال، وإضعاف وضع لندن بحسبانها أحد أهم المراكز المالية الدولية.
على جانب آخر، فإن اختبار جونسون الطارئ على الساحة الدولية، يتعلق بقدرته على توجيه سياسات بلاده حيال أزمة إيرانية - بريطانية متفاقمة؛ عنوانها احتجاز ناقلتي نفط من قبل الطرفين، ما أثار قلقاً متزايداً من تصاعد التوترات في المنطقة، وازدياد التهديدات الإيرانية لحرية الملاحة الدولية.
ويتمثل خيارا جونسون في هذه الأزمة؛ إما بالمشاركة في تحالف تقوده واشنطن، بما يعزز فرص إحياء الجهود المتوقفة؛ للتوصل إلى اتفاق تجارة حرة مع واشنطن لفترة ما بعد البريكست، أو الالتزام بالاقتراح الذي تقدمت به الحكومة البريطانية السابقة بشأن تشكيل «قوة حماية بحرية» أوروبية؛ لضمان أمن وحرية الملاحة الدولية. بيد أن هذا الخيار يُظهر انكشاف بريطانيا على حلفائها الأوروبيين في وقت تسعى فيه إلى الانفصال عنهم بطريقة «مؤلمة».
ويبدو الأقرب أن تندمج بريطانيا مع سياسات واشنطن على الصعيد الدولي، بما يوضح عدم واقعية جونسون حينما انتقد بعنف حكومة توني بلير العمالية؛ لتحالفها مع الرئيس جورج بوش في حرب «عاصفة الصحراء»، قائلًا: إن واشنطن تستعبد لندن، التي قبلت بأن تصبح مطية لها. ووفق بعض التقديرات الأمريكية، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعول على نظيره البريطاني، الذي وصفه ب«الصديق العظيم»، لتشكيل حملة دولية؛ للضغط على طهران، على نحو لا يبقى أمام دول أوروبا سوى الانضمام إلى الجهود الأمريكية؛ لتشكيل جبهة موحدة ضد سياسات إيران في منطقة الخليج، بما يعني أن جونسون قد لا يمثل نقطة تحول في السياسة البريطانية والأوروبية وحسب، وإنما بالنسبة للعديد من القضايا الدولية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"