التاريخ .. مكتبة

01:36 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: الخليج

يعتبر تاريخ المكتبات دراسة لتطور الفكر الإنساني، لأن الكتاب يعبر عن هذا الفكر، ويعكس نتاجه، وتعد المكتبة دليلاً على التطور، ويعد اكتشاف الكتابة من أهم الخطوات التي خطاها الإنسان في انتقاله إلى الحياة المدنية، فقد مكنته من تدوين المعرفة، ومع تطور الكتابة ازداد الاهتمام بالوثائق والمخطوطات، وجمعها في أماكن خاصة، بغية تسهيل الرجوع إليها عند الضرورة، لذا كان ظهور المكتبات ضرورة، دعت إليها الحاجة إلى حفظ الوثائق الرسمية. وشهد القرن الثاني الهجري ظهور الكتب وحركة تدوين التراث والتاريخ لدى العرب، ورأينا ازدهار حركة التأليف، خصوصاً بعد تأسيس صناعة الورق في بغداد، ونظراً لحب العرب الأوائل للكتب والقراءة والعلم، ونتيجة لاتصالهم بالثقافات الأجنبية، في البلاد التي فتحوها، انتشرت عدة أنواع من المكتبات، واهتم الخلفاء بتأسيس المكتبات العامة، التي جمعوا فيها الكتب العربية والفارسية والمترجمة عن اليونانية، كما أنشأوا المكتبات في المدارس والمساجد، وزاد من النهضة العلمية والثقافية استخدام الورق في الكتابة.
بازدهار حركة التأليف والترجمة، وخاصة في بغداد، ظهر الاهتمام بالكتاب وازدهرت المكتبات، تبعاً لتزايد أعداد الكتب، وشغف الناس بالقراءة، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه النهضة إلى جمع الكتب والمؤلفات، وتكوين المكتبات الخاصة ببعض الأفراد، وكانت في مجموعها صغيرة، لكن مكتبات الخلفاء وكبار رجال الدولة كانت كبيرة، وتحولت إلى مكتبات عامة، لخدمة طوائف معينة من القراء.

كوارث

وعن طريق حضارة شرق البحر المتوسط انتقل الاهتمام بالكتاب والمكتبات إلى الإمبراطورية الرومانية، وريثة الثقافة الهللينستية قبل الميلاد، ففي العصور القديمة، كانت هناك مكتبات عملاقة لم تكتب لها النجاة مما مر بها من كوارث، فضاعت معها أجزاء نادرة من تراث البشرية، منها مكتبة أرسطو، التي تلاشت بعد أن أصبحت أعماله محرمة.
في عام 335 قبل الميلاد، أسس أرسطو في أثينا مدرسته الخاصة (المشائية) وقد جذبت الطلاب من جميع أنحاء اليونان، وجمعت مجموعة من المخطوطات، التي جعلتها واحدة من أولى المكتبات الكبرى في العالم، وضمت أعمال أرسطو، وبعد وفاته سيطر الطلاب على المدرسة، ويقال إنه تم إغلاقها على أيدي الإمبراطور قسطنطين، كانت الفلسفة في عهده محرمة، ولعدة أجيال كانت أعمال أرسطو منسيّة.
وعندما ظهرت حضارة «المايا» في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، وانتشرت من جنوب شرقي المكسيك إلى غرب هندوراس والسلفادور، طورت نظاماً للكتابة، استخدمته لتسجيل معلومات خاصة بثقافتهم على الكتب القابلة للطي، والمعروفة باسم المخطوطات، وكانت هذه المخطوطات تشكل جزءاً أساسياً من ثقافتهم، ومن هذه الكتابات (كتاب المايا المقدس) وفيه ذكرت بدايات الكون، وضاع الكثير من مخطوطات حضارة المايا، بسبب قيام الإسبان بإحراقها خلال غزوهم للبلاد.
يبدو أن وجود المكتبة مرتبط بالحريق والغزو والدمار، فلأسباب سياسية ودينية وفكرية، شهد التاريخ العديد من محارق الكتب، فملايين الكتب ضاعت بسبب الحروب والغزوات، وتغير الأنظمة والاحتلال، فقد تعرض الفيلسوف ابن رشد للاتهامات، وإثر ذلك تم نفيه إلى مراكش وتوفي فيها 1198 بعد حرق كتبه، وقام تنظيم «داعش» في أوائل الألفية الثالثة بإحراق المكتبة المركزية شمال شرق بعقوبة في العراق، إضافة إلى حرق مكتبات أخرى.
ويؤكد ابن خلدون أن السلطان محمود الغزنوي لما فتح الري، وغيرها سنة 420 هجرية، نفى المعتزلة وأحرق كتب الفلاسفة، واستخرج كتب علوم الأوائل وعلم الكلام من مكتبة الصاحب بن عباد وأمر بإحراقها، وفي زمن الموحدين جرى اضطهاد من كتبوا في علم المذهب والفقه، وأحرقت كتبهم، وتعهد المنصور في القرن السادس الهجري بألا يترك شيئاً من كتب المنطق والحكمة باقياً في بلاده، وأباد كثيراً منها بإحراقها بالنار.
وكان اهتمام الفاطميين بالعلم قد بلغ درجة كبيرة، فهناك مكتبة العزيز بالله الذي قالت عنه سيجريد هونجه: «لا يستطيع أحد أن يقارن نفسه بالخليفة العزيز في القاهرة، فقد حوت مكتبته مليوناً و600 ألف مجلد» شكلت فيما بعد نواة مكتبة دار الحكمة، وأقيمت في بناء مستقل وضمت 18 قاعة مطالعة، وقد فتحت لعامة الناس، أي أنها كانت مكتبة عامة، وبقيت قائمة إلى أن سقطت الدولة الفاطمية، بموت الخليفة العاضد.
وذكرت المستشرقة الألمانية زيجريد هونجه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب» أنه تم حرق مكتبة «دار العلم» في القاهرة، وتقدر مقتنياتها بمليونين ومئتي ألف مجلد، وخسر العرب ما يزيد على مليون كتاب في الأندلس حين شن الإسبان حرباً شعواء على العرب، وحرقوا الكتب بقصد تدمير الثقافة العربية، وعندما انتزع العثمانيون مصر قاموا بسلب ونهب وتدمير وحرق المكتبات، وعند خروج الحملة الفرنسية من مصر عام 1801تم نقل العديد من المخطوطات إلى فرنسا.
وفي إبريل 1933 شهدت مدينة برلين الألمانية واحدة من أكبر عمليات حرق الكتب خلال حقبة النازية، حين تجمع حوالي 70 ألف شخص في أحد ميادين برلين، وقامت مجموعة من الطلبة بنقل أكثر من 20 ألف كتاب، لتحرق أمام الجميع، لقد تحول حرق الكتب في ألمانيا النازية إلى «طقس احتفالي» حتى إن جوبلز، وزير الدعاية النازية الشهير، خرج ليُلقي كلمة عقب قيام الطلاب الألمان بحرق الكتب، قائلاً: «لقد أبليتم بلاء حسناً في هذه الليلة، بإلقاء آثار الماضي في قلب النيران، هذا استعراض مفعم بالقوة، وعظيم ورمزي، الماضي يرقد هنا في قلب النيران».

الأكبر

وبرصد أكبر مكتبات العالم حالياً، نتوقف أمام مكتبة الكونجرس بواشنطن، ومنقوش على قبة أحد مبانيها «المكتبة الأكبر والأكثر تكلفة وأماناً في العالم» ويبلغ طول أرففها 856 كيلومتراً، وتضم 130 مليون مادة مختلفة، منها 29 مليون كتاب، ومواد مطبوعة ب 460 لغة، وأكثر من 58 مليون وثيقة، وتضم أكبر مرجع في العالم للمواد القانونية والخرائط والأفلام، حتى المعزوفات الموسيقية.
وهناك مكتبة الأكاديمية الروسية للعلوم في سان بطرسبرج، وتحتوي على أكثر من 20 مليون كتاب، ويوجد بها كتب بعدة لغات، وهي مملوكة للدولة الروسية تأسست في سنة 1714 وصدر قانون يلزم الناشرين بتزويدها بنسخ من الكتب، وتعرضت للعديد من الأزمات، أبرزها أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث تم احتلالها من قبل المستشفى العسكري، قبل أن يتم نقلها لمقر جديد عام 1925 ثم تعرضت لحريق كبير عام 1988 تسبب في تضرر جزء كبير من محتوياتها.

محطات عربية

ومن أهم المكتبات العربية دار الكتب والوثائق القومية بمصر، ففي سنة 1859، أصدر الخديوي إسماعيل توجيهاته القاضية بإنشاء مكتبة وطنية، ضمت آنذاك كتباً جمعت من بعض المدارس والمساجد، بناء على توجيهات الخديوي، كمحاولة أولية لتأسيس نواة المكتبة، تلت توجيهات الخديوي تلك، توجيهات جديدة لعلي مبارك باشا، قضت بجمع ما تملكه مديرية الأوقاف من مخطوطات، وتحويلها إلى المكتبة التي بلغ عدد محتوياتها ما يقارب 20 ألف مجلد.
وكان هدف الفرنسيين من تأسيس المكتبة الوطنية الجزائرية سنة 1835 إبان احتلالهم الجزائر، جمع كل ما كتب وطبع عن الجزائر في هذه المكتبة، كمحاولة لفهم الشعب الجزائري، وكان استقلال الجزائر نقطة تحول مهمة في تاريخ المكتبة، إذ إن السلطات الجزائرية، بعد الاستقلال، أصدرت قرارات تفيد بوجوب حفظ المكتبة للتراث والثقافة الوطنية الجزائرية، والعمل على نقل كل ما كتب وطبع عن الجزائر في الخارج إلى المكتبة.
المكتبة التي تواتر على إدارتها قبل الاستقلال عدد من العلماء الفرنسيين، أعادت بعد نهاية الاحتلال الفرنسي الاهتمام باللغة العربية، التي حظيت بإهمال كبير في عهد الاحتلال، ليبلغ عدد ما تحتويه من مجلدات باللغات العربية والأجنبية ما يقارب 900 ألف مجلد.
خسر العرب كثيراً جراء حرق الكتب وتدمير المكتبات الرئيسية التي كانت مصدر إشعاع حضاري للإنسانية آنذاك، وجاءت الحروب الصليبية التي استمرت حوالي قرنين، لتقضي على ما تبقى في العالم العربي من كتب ومكتبات، وفي شبه جزيرة إيبريا شن الأسبان حرباً شعواء على العرب المسلمين هناك، مستهدفين الكتب والمكتبات، فعملوا فيها حرقاً وتدميراً من أجل القضاء على الثقافة الإسلامية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"