هل تستطيع السلطة الاستقلال اقتصادياً؟

03:24 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

أكثرت السلطة الفلسطينية، في ظل تأزم علاقاتها السياسية والاقتصادية مع حكومة الكيان، من الحديث عن الانفكاك الاقتصادي والبحث عن بدائل على طريق تكوين اقتصاد وطني فلسطيني مستقل.
وأعلنت حكومة الدكتور محمد أشتية، منذ تشكيلها في أبريل الماضي، استراتيجية الانفكاك الاقتصادي عن الكيان، وبدأت خطوات عملية بهذا الشأن.
تمثلت أولى هذه الخطوات بقرار وقف التحويلات الطبية إلى المستشفيات «الإسرائيلية»، ومحاولة استيراد الوقود والكهرباء عبر الأردن وتعزيز الإنتاج المحلي.
وتم الإعلان عن مشروع ابتدائي بهذا الشأن في مدينة الخليل، بوصفها مدينة ذات وضع خاص في الاحتكاك اليومي والمباشر بين الفلسطينيين والمستوطنين.
ولا بد من الإشارة إلى أن إعلان حكومة أشتية عن هذه الخطوات تم ربطه بقرارات صادرة عن المجلسين الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير منذ العام 2015 وتقضي بوقف التنسيق الأمني والانفكاك عن الاقتصاد «الإسرائيلي».
وفي هذا السياق تزايد الحديث أيضاً عن اتفاقية باريس الاقتصادية التي تحكم العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال، والتي تكرس في نظر الجميع أسس التبعية الاقتصادية.
غير أن خبراء اقتصاديين، يشددون على أن المشكلة لا تتمثل في اتفاقية باريس الاقتصادية، وإنما أصلاً في اتفاقيات أوسلو السياسية، التي منحت الاحتلال القدرات الأساسية للسيطرة على حياة الفلسطينيين الاقتصادية والسياسية.
فالاحتلال لا يسيطر فقط على المنافذ الحدودية مع الدول العربية والعالم الخارجي، وإنما يسيطر أيضاً على الطرق داخل محافظات فلسطين في الضفة وبينها وبين محافظات قطاع غزة.
ومن الواضح، أن الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال بات مشروعاً وطنياً بامتياز، ويحظى بدعم شعبي ورسمي واسع، لكن الأسئلة بشأنه أكثر من الأجوبة.
ومن بين أهم هذه الأسئلة يوجد السؤال حول فرص نجاح المحاولات الفلسطينية هذه وإلى أين يمكنها أن تصل، ومعروف أن حكومة الدكتور سلام فياض، التي تولت الحكم بعد انقلاب حماس عام 2007 تبنت استراتيجية بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية بهدف تسهيل الانفكاك عن الكيان، وبعدها صارت هذه أهداف الحكومتين اللتين خلفتاها في ظل تأزم العلاقات السياسية وانسداد أفق التسوية مع الكيان.
على الأرض يصعب القول إن هدف الانفكاك السياسي والاقتصادي قد تحقق، أو أنه صار أقرب إلى التحقق نتيجة أفعال «إسرائيلية» مضادة على الخط، وبين أول هذه الأفعال المشاريع الاستيطانية الجارية في مناطق مختلفة في الضفة الغربية عموماً وفي القدس المحتلة ومحيطها على وجه الخصوص. وفيما تضع السلطة الفلسطينية، الخطط لتحقيق الانفكاك الاقتصادي، يزيد الاحتلال من مشاريع تكريس التبعية وتسهيل وصول العمالة الفلسطينية إلى مشاريع الإنتاج والبناء «الإسرائيلية» ليس فقط في مناطق 48، وإنما أيضاً داخل المستوطنات في الضفة.
ولا يقل عدد العمال الفلسطينيين في هذه المناطق عن 200 ألف عامل من أبناء الضفة والقدس المحتلة وبعض أبناء قطاع غزة.
وقد أوكلت السلطة الفلسطينية لفريق من الاقتصاديين الفلسطينيين، بلورة مشاريع وطرق لتعزيز الانفكاك الاقتصادي عن الكيان.
ويمكن القول إن معظم هؤلاء يدركون حجم المصاعب التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني في علاقته مع اقتصاد صهيوني متطور من جهة ويملك كل معطيات السيطرة على الأرض من جهة أخرى.
ويعرفون أن العلاقة مع المحيط العربي ومع العالم الخارجي محكومة بالمرور عبر خرم إبرة الغلاف الأمني والاقتصادي «الإسرائيلي»، كما أن الكثير في الجانب الاقتصادي يعتمد أساساً على القرار السياسي الذي يبدو أكثر تقييداً في واقع فلسطيني وعربي ودولي يزداد تعقيداً.
وعلى سبيل المثال، فإن الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال يصعب تحقيقه مثلاً من دون إقرار عملة وطنية فلسطينية، وهي ليست بالأمر الهين، بل أن رئيس الحكومة الفلسطينية محمد أشتية تحدث مؤخراً عن احتمال اعتماد عملة رقمية وليس ورقية لتجنب السيطرة «الإسرائيلية».
في كل حال هناك إجماع فلسطيني حول أن التبعية للاقتصاد الصهيوني نوع من «مرض خبيث ينخر الجسم الوطني»، وفق تعبير مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية محمد مصطفى. ويقر مصطفى بأن إلغاء هذه التبعية يتطلب نضالاً تقع مسؤولية خوضه على كل من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع الفلسطيني في عملية تراكمية جدية وتستغرق وقتاً، وثمة إقرار فلسطيني بأن اتفاقية باريس منحت الكيان كل أدوات السيطرة، ولم تبق للفلسطينيين سوى هوامش ضيقة للحركة.
وأن اتفاقية باريس في الأساس هدفت إلى إبقاء التبعية الفلسطينية للكيان عبر الغلاف الجمركي الواحد الذي تحول من أمر واقع فرضه الاحتلال، إلى اتفاقية تعاقدية تتضمن إقراراً بالسيطرة على المنافذ الحدودية وتقييد السياسات الضريبية. ومعروف أن الحكومة الفلسطينية، طلبت مراراً إعادة النظر في اتفاقية باريس الاقتصادية وطلبت من النرويج التدخل في هذا الشأن.
عموماً تحاول حكومة أشتية، واعتماداً على منهج أعده فريق وطني خاص للتنمية الاقتصادية تشكل بقرار رئاسي، الانفكاك التدريجي عن «إسرائيل» والنهوض بالاقتصاد الفلسطيني عبر تعزيز الشراكة بين القطاعات العامة والخاصة والأهلية. وقد أشار وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة أشتية، الدكتور أحمد مجدلاني، إلى أن الانفكاك عن الاقتصاد «الإسرائيلي» يقوم على أساس رؤية تنموية شاملة وخطة اقتصادية تعتمد تقسيم المحافظات الفلسطينية إلى مناطق استثمار وإنتاج محددة.
وعدد محافظتي نابلس والخليل كعناقيد صناعية، ومحافظتي بيت لحم والقدس عناقيد سياحية، ومحافظات شمال الضفة كجنين وطولكرم وقلقليلة وطوباس كعناقيد زراعية، ولوحظ غياب محافظات قطاع غزة الخمسة عن هذه الرؤية ما يقلل من شموليتها.
وأياً تكن الحال من الواضح، أن السلطة الفلسطينية، وخصوصاً في ظل الأزمة المالية التي تعانيها، تحاول التحرك في اتجاهات مختلفة.
وكان أوضح هذه الاتجاهات الاتفاقيات التي أبرمتها مع الحكومة الأردنية بشأن اعتماد المستشفيات الأردنية كبديل للمستشفيات «الإسرائيلية». وكثر الحديث عن استيراد الوقود بسعر تفضيلي من العراق عبر الأردن بدلاً من استيراده عبر الكيان واستيراد الكهرباء من الأردن مباشرة.
ويمكن لمثل هذه الخطوة التي لا تتناقض مع اتفاقية باريس، أن تزيد ولو قليلاً من مداخيل السلطة الفلسطينية، لكنها لا تغير من واقع الحال شيئاً. فالمسألة في جوهرها تتمثل في القدرة على بناء اقتصاد وطني مستقل من جهة وامتلاك السيطرة على مقدراته من جهة أخرى.
والواقع أن الكيان يبذل أقصى الجهد لإبقاء السلطة الفلسطينية ضمن دائرة مقيدة تجعل الفلسطينيين، ولو ظاهرياً، قادرين على ادعاء إدارتهم لأنفسهم، لكنهم عملياً يخضعون لمن يمسك بالخيوط من بعيد.
إن أحد مثالب خطط الانفكاك عن الاقتصاد «الإسرائيلي»، تكمن أولاً في عدم نجاح الفلسطينيين في إنهاء الانقسام من ناحية وفي الاتفاق على إدارة صراعهم مع الاحتلال من ناحية أخرى.
وبين هذا وذاك يبدو أن الحديث عن الانفكاك الاقتصادي، صار بديلاً عن النضال الأساسي في مواجهة الاحتلال وهو نضال سياسي يتطلب رؤية فلسطينية وعربية موحدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"