إنقاذ أرواح البشر

04:58 صباحا
قراءة 5 دقائق

من ينتقدون المساعدات الخارجية مخطئون . فهناك فيض متزايد من البيانات التي تبين أن معدلات الوفاة في الكثير من البلدان الفقيرة بدأت تهبط بصورة حادة، وأن برامج الرعاية الصحية التي تدعمها المساعدات لعبت دوراً رئيساً في هذا الصدد . إن المساعدات مثمرة حقاً؛ فهي تنقذ الأرواح .

وتُظهِر واحدة من أحدث الدراسات، والتي أجريت بواسطة جابرييل ديمومبينيز وصوفيا ترومليروفا، أن معدل الوفيات بين الأطفال الرضع في كينيا (الوفيات قبل إكمال الطفل عامه الأول) هبط إلى مستويات متدنية للغاية في الأعوام الأخيرة، ويعزو الباحثان جزءاً كبيراً من هذه المكاسب إلى استخدام شبكات الأسِرّة المضادة لبعوض الملاريا بكثافة . وتتفق هذه النتائج مع دراسة مهمة عن معدلات الوفاة بالملاريا، أجراها كريس موراي ومعه آخرون، والتي وجدت على نحو مماثل انحداراً كبيراً وسريعاً في معدلات الوفاة بسبب الملاريا بعد عام 2004 في الدول الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى في إفريقيا نتيجة لتدابير مكافحة الملاريا التي دعمتها المساعدات .

إذا عدنا بالزمن إلى الوراء نحو عشرة أعوام، فسوف نجد أن إفريقيا في عام 2000 كانت تصارع ثلاثة أوبئة رئيسية . فكان الإيدز (مرض نقص المناعة البشرية المكتسبة) يقتل أكثر من مليوني شخص سنوياً، وينتشر بسرعة بالغة . وكانت معدلات الإصابة بالملاريا في ارتفاع بسبب المقاومة التي اكتسبها الطفيلي المسبب للمرض بشكل متزايد للدواء القياسي في ذلك الوقت . وكان مرض السل أيضاً في ارتفاع بسبب انتشار وباء الإيدز من ناحية وبسبب ظهور السل المقاوم للأدوية من ناحية أخرى . فضلاً عن ذلك فإن مئات الآلاف من النساء كن يمتن أثناء الولادة في كل عام، بسبب عجزهن عن الوصول إلى الولادة الآمنة في عيادة أو مستشفى أو الحصول على المساعدة في حالات الطوارئ .

عملت هذه الأزمات المتشابكة على التعجيل بالتحرك والعمل . فقد تبنت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أهداف تنمية الألفية في سبتمبر/أيلول من عام 2000 . والواقع أن ثلاثة من أهداف تنمية الألفية الثمانية خفض معدلات الوفاة بين الأطفال، وبين الأمهات، والسيطرة على الأمراض الوبائية تركز بشكل مباشر على الصحة .

وعلى نحو مماثل، أصدرت منظمة الصحة العالمية نداءً لزيادة مساعدات التنمية في مجال الصحة . ولقد قَبِل زعماء إفريقيا، تحت قيادة الرئيس النيجيري آنذاك أولوسيجون أوباسانجو، التحدي المتمثل في محاربة الأوبئة في القارة، فاستضافت نيجيريا اثنين من مؤتمرات القمة التاريخية بشأن مكافحة الملاريا في عام 2000 والايدز في عام ،2001 والتي كانت بمثابة حافز بالغ الأهمية للعمل .

في إطار مؤتمر القمة الثاني بين هذين المؤتمرين، دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان آنذاك إلى إنشاء الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، وبدأ الصندوق العالمي عملياته في عام ،2002 بتمويل الوقاية والعلاج وبرامج الرعاية لهذه الأمراض الثلاثة . كما وافقت الدول ذات الدخل المرتفع أخيراً على خفض الديون المستحقة على الدول الفقيرة المثقلة بالديون، الأمر الذي سمح لهذه الدول بإنفاق المزيد من الأموال على الرعاية الصحية وتقليص الإنفاق على سداد دفعات أقساط الديون التي أصابتها بالشلل .

كما شرعت الولايات المتحدة أيضاً في العمل، فتبنت برنامجين رئيسين، الأول لمكافحة الإيدز والثاني لمكافحة الملاريا . ففي عام ،2005 أوصى مشروع الألفية التابع للأمم المتحدة باتباع سبل محددة لرفع مستوى الرعاية الصحية الأولية في أكثر البلدان فقراً، مع تقديم الدول ذات الدخول المرتفعة يد المساعدة لتغطية التكاليف التي يعجز الأكثر فقراً عن سدادها بأنفسهم . كما دعمت الجمعية العامة للأمم المتحدة العديد من توصيات المشروع، التي تم تنفيذها آنذاك في العديد من الدول ذات الدخل المنخفض .

ونتيجة لكل هذه الجهود، بدأت مساعدات المانحين في الارتفاع بشكل حاد .

وسمح التمويل الموسع بتنظيم حملات كبرى لمكافحة الإيدز والسل والملاريا؛ ورفع مستويات ضمان الولادة الآمنة؛ وزيادة تغطية اللقاحات، بما في ذلك الاقتراب من القضاء على شلل الأطفال تماما . هذا فضلاً عن تطوير وتبني العديد من أساليب الصحة العامة الإبداعية . ومع وجود مليار شخص يعيشون في بلدان ذات دخل مرتفع، فإن إجمالي المساعدات في عام 2010 كان يعادل نحو 27 دولاراً أمريكياً عن كل شخص في الدول المانحة وهو مبلغ متواضع للغاية بالنسبة إليهم، ولكنه كان كافياً لإنقاذ الأرواح في الدول الأشد فقراً على مستوى العالم .

وبوسعنا الآن أن نرى نجاحات الصحة العامة على العديد من الجبهات . ففي عام 1990 مات نحو 12 مليون طفل دون سن الخامسة . وبحلول عام ،2010 انحدر هذا الرقم إلى نحو 6 .7 مليون طفل وهذا رقم لا يزال مرتفعاً للغاية، ولكن من المؤكد أنه يشير إلى تحسن تاريخي، كما انخفضت الوفيات المرتبطة بالملاريا بين الأطفال في إفريقيا من مليون طفل تقريباً في عام 2004 إلى نحو 700 ألف طفل بحلول عام ،2010 وعلى مستوى العالم، انحدرت الوفيات بين النساء الحوامل إلى النصف تقريباً (من 543 ألفاً إلى 287 ألفاً) بين عامي 1990 و2010 .

إن زيادة المساعدات السنوية بمقدار 10 إلى 15 مليار دولار أخرى (أي نحو 10 إلى 15 دولاراً عن كل شخص يعيش في بلدان العالم ذات الدخل المرتفع) لكي يرتفع إجمالي المساعدات إلى نحو 40 مليار دولار سنوياً، من شأنه أن يمكننا من إحراز تقدم أعظم في الأعوام المقبلة . إن الأهداف الإنمائية للألفية في مجال الصحة قابلة للتحقيق حتى في أشد بلدان العالم فقراً .

ولكن من المؤسف أنه مع كل خطوة نقطعها طيلة العقد الماضي وحتى يومنا هذا تنطلق جوقة من المشككين الذين يسوقون الحجج ضد المساعدات المطلوبة بشدة . فقد زعموا مراراً وتكراراً أن المساعدات غير مجدية؛ وأن الأموال المخصصة لها سوف تُهدَر ببساطة؛ وأن شبكات الأسرة المعالجة ضد بعوض الملاريا لا يمكن أن تُعطى للفقراء لأن الفقراء لن يستخدموها؛ وأن الفقراء لن يتناولوا أدوية مكافحة الإيدز بانتظام؛ وهكذا دواليك . وكانت هجماتهم بلا هوادة (ولقد نلت نصيبي منها) .

إن معارضي المساعدات ليسوا مخطئين فحسب، بل إن عداوتهم الصارخة لا تزال تهدد التمويل اللازم لإنجاز المهمة، لخفض معدلات الوفاة بين الأطفال والأمهات إلى المستوى الكافي لتلبية الأهداف الإنمائية للألفية بحلول عام 2015 في أكثر بلدان العالم فقرا، ومواصلة العمل بعد ذلك التاريخ لضمان قدرة كل الناس في كل مكان على الوصول أخيراً إلى الخدمات الصحية الأساسية .

لقد أثبت العقد الماضي الذي شهد تقدماً كبيراً في النتائج الصحية خطأ المشككين . فالمساعدات في مجال الرعاية الصحية مجدية ومثمرة وبشكل لافت للنظر وقادرة على إنقاذ أرواح البشر وتحسين حياتهم . وينبغي لنا الآن أن نواصل دعم هذه البرامج المنقذة للحياة، والتي تحفظ كرامة ورفاهة كل الناس على كوكب الأرض .

* أستاذ علوم الاقتصاد ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"