الإرادة والتاريخ وعرب اليوم

03:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

في عموم الفكر السياسي، هناك صراع نظري بين رؤيتين، ترى الأولى أن التاريخ صيرورة، لها استقلاليتها عن الإرادة، بينما تقوم الرؤية الثانية على إعطاء الإرادة دوراً مهماً في صناعة التاريخ، وأحداثه، خصوصاً تلك الأحداث المفصلية والمصيرية في تحديد الوجود التاريخي للمجتمعات والدول، ويستعاد الصراع بين الرؤيتين إلى التاريخ، في العادة، حين يقوم الباحثون والسياسيون والنخب بتقييم حالة ما، بما فيها الحالات الراهنة، كما يحدث اليوم في الشرق الأوسط عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً.
الصراع النظري بين الرؤيتين له مشكلات جوهرية، إذ يضع الصيرورة على نقيض مع دور الفاعلين التاريخيين، أي مع نقيض الإرادة، كما أنه يجعل من الصيرورة صنماً، أو بمثابة حتمية تاريخية، ليس للبشر دور فاعل فيها، كما أن القائلين بالصيرورة التاريخية يتغافلون، بحسن نية، أو عدمها، عن كون الصيرورة نفسها هي من صناعة البشر أنفسهم، وأيضاً يقع القائلون بدور الإرادة في مطب كبير، وهو مطب تناسي الديناميّات الخاصّة بالتاريخ، حيث لا يمكن للإرادة أن تتجاوز دائماً تلك الديناميّات، فهي راسخة إلى حد كبير، خصوصاً في مجال الاجتماع البشري، أي وعي الجماعات والأفراد، والعلاقات القائمة فيما بينهما.
وإذا انتقلنا من الحقل النظري المهم، إلى حقل المثال العملي، فإن منطقتنا مرّت، خلال الأعوام السابقة، بزلازل كبيرة، وضعتها على خريطة الفوضى والاضطراب، وأعادت إلى الواجهة سؤالاً كبيراً حول المسؤوليات، مسؤوليات النخب، والسلطات السياسية، والمعارضات، والمجتمعات، ومستوى وعيها بالأحداث الجارية، والمواقف التي اتخذتها، وعلاقة كل ذلك بالصيرورة التاريخية للعرب في العصر الحديث، أي منذ نهايات القرن التاسع عشر ولغاية يومنا هذا التي تتضمّن بالطبع مراحل بناء الدول الوطنية في العالم العربي، والعقد الاجتماعي المؤسس للدولة في كل منها.
لا شك في أن الخارج الاستعماري، وما بعد الاستعماري، قد لعب دوراً مهماً في مجريات تكوين الوقائع السياسية في عالمنا العربي، ضمن صيرورة تاريخية لها علاقة بطبيعة النظام الدولي نفسه، لكن ذلك يجب ألا يعفينا من السؤال عن إرادة العرب، أو إرادة النخب العربية التي وصلت إلى سدّة الحكم، أو إرادة المعارضات السياسية التي وقفت ضد سياسات الحكومات، والسلطات السياسية، إذ إنه من الأهمية بمكان عدم التغاضي عن دور تلك النخب في ما وصلنا إليه، كأنها مسلوبة الإرادة لمصلحة صيرورة تاريخية معروفة النتائج مسبقاً.
تميل النخب العربية عادة، حين تصاب بالهزيمة، إلى اتباع خطاب ذرائعي، يضع اللوم على قوى أكبر منها في سياق نظرية المؤامرة، أو على الواقع الاجتماعي، ووعي الفئات الاجتماعية، للهروب من تحمّل مسؤوليتها التاريخية، وبالطبع، تتغافل تلك النخب عن مسألة رئيسية، وهي أن الصراعات السياسية تقوم على الخطط، والخطط المضادة، وأن ما يسمى المؤامرة عادة، ما هو إلا مجرد خطط، تستوجب وجود خطط مضادة لها، كما تتناسى النخب، خصوصاً النخب الحاكمة، أنها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن الأوضاع الاجتماعية، وعن جزء كبير من وعي الفئات الاجتماعية. لقد كشفت السنوات الماضية في العالم العربي عن نقص خطر في وعي صيرورة التاريخ، كما كشفت عن نقص في إرادة الفاعلين السياسيين، فمن جهة لم تدرك النخب أن التغيير عملية استحقاق في التاريخ، وأنه لا يمكن تثبيت أوضاع معينة إلى ما لا نهاية، وأن ديناميّات جديدة قد تولّدت في المجتمع، خصوصاً لدى الأجيال الشابة، كما أن تلك النخب ذاتها لم تضع إرادتها في مصلحة تجنّب حدوث حالات اضطراب وفوضى، من شأنها أن تحوّل الصراعات الوطنية إلى صراعات إقليمية ودولية، وبقيت مصرّة على الاحتفاظ بمواقعها القديمة، بل إن قصور وعيها، إضافة إلى انتهازيتها، واستعلائها، كل ذلك جعلها تدافع بشراسة عن مصالحها الضيقة، ما منعها من رؤية مجمل اللوحة، بكامل تعقيداتها، وتفاصيلها.
ولا يقتصر الأمر على النخب الحاكمة، بل أيضاً على خيارات النخب الموجودة في المعارضات السياسية، وعلى وعيها بالواقع والتاريخ، وعلى الأدوار التي لعبتها، فقد رأينا كيف ذهبت الكثير من تلك المعارضات نحو خيارات لا وطنية، من أجل الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وبنت تحالفات مع الخارج على حساب المصلحة الوطنية، وبالتالي فهي وقعت في المطبّات ذاتها التي وقعت فيها النخب الحاكمة، من حيث وضع المصلحة السياسية الخاصة في مرتبة أعلى من مصلحة المجتمع والدولة.
إن الفصل بين صيرورة التاريخ وإرادة الفاعلين فيه، هو فصل نظري، والتنصّل من مسؤولية الإرادة يحوّل التاريخ إلى مجرد غريزة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"