البنى المجتمعية العميقة والمعيقة

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

بعيداً عن السطح السياسي الذي يمكن تحليله عبر المصالح المباشرة للقوى الحاكمة، من أنظمة سياسية وأمنية وعسكرية، هناك شبه غياب (خصوصاً في العقدين الأخيرين) في الفكر العربي، للربط بين البنى المجتمعية والبنى السياسية، حيث إن النقد غالباً يطول البنى السياسية، لأمرين اثنين، يتمثل الأول في سهولة فهم المصالح التي تقف خلف تلك البنى وممثليها، والأمر الثاني يتعلق بمسؤولية تلك البنى عن الأحداث المباشرة، وما يترتّب عليها من خيارات.
لكن البنى السياسية ليست بنى معزولة عن بيئتها الاجتماعية التاريخية، حتى لو كانت أكثر تبلوراً في أحزاب وإيديولوجيا ورموز وشخصيات، فهي تعبّر فعلياً عن منظومة قيمية لها جذورها الضاربة في العمق الاجتماعي، وإلاّ ما كانت قادرة على نيل جزء كبير من مشروعيتها، وبالتالي قدرتها على البقاء، حتى لو كانت تلك المشروعية على النقيض مع سياق التطور التاريخي للممارسة السياسية، والتي تعد جزءاً لا يتجزأ من تطور المجتمعات نحو الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون.
ما يدعو اليوم إلى استعادة النقد الفكري للبنى العميقة للمجتمعات هو أنها، ورغم سقوط بعض الأنظمة السياسية، أو تداعيها، إلا أنها تعيد إنتاج بنى ومقولات وممارسات لا تقلّ سوءاً عن الأنظمة نفسها، وهو ما يحتاج إلى وقفة فكرية وتحليلية لهذه الظاهرة، وفهم جذورها، بعيداً عن الاتهامات المسبقة للمجتمعات الراهنة، فالمسألة متعلقة بسياق تاريخي سياسي- ثقافي- قيمي، يتحمّل مسؤولية كبرى عن واقع مجتمعاتنا العربية الراهن.
المنظومات القيمية الاجتماعية هي منظومات تتسم بالعناد أمام التغيير، إذ إنه من السهل تغيير نظام إداري لمؤسسة حكومية، أو تعديل قوانين، في فترة قياسية، لكن ليس من السهل تغيير آليات التفكير المجتمعي الجمعي، والتي تأسّست على موروث تاريخي يعود لقرون طويلة، وبالتالي يصعب تفكيكه، من دون تفكيك الشروط الاقتصادية والسياسية التي أنتجته.
إن القسم الأكبر من الدول العربية اليوم كانت قبل أكثر من قرن، جزءاً من الخلافة العثمانية، ولئن انتهى النظام السياسي للخلافة مع نهايات الحرب العالمية الأولى، إلا أن الإرث القيمي الذي عاشته شعوب المنطقة تحت ظلّ الخلافة لم ينته.
أما ما عرف بالأحزاب والأنظمة التقدمية فهي الأخرى، من حيث الممارسة لا الخطاب، أعادت إنتاج القيم القديمة، ولم تستطع أن تقدّم نموذجاً مغايراً، فقد اعتمدت في إدارة شؤونها على العلاقات الزبائنية، حيث يشكل الولاء العنصر الحاسم في القرب أو البعد عن القيادة، أو القائد، كما شكّلت العلاقات الخاصة، وما تنطوي عليه من مصالح، شبكات لإدارة الشؤون العامة، وخصوصاً المرتبطة بالعوائد المالية والنفوذ. وكما كان سائداً خلال الخلافة العثمانية، فقد لعب رجال الدين الرسميين دوراً بارزاً في تثبيت الحكم، وفي ترسيخ السياسات الحكومية، بما في ذلك في بعض الأنظمة التي ادّعت العلمانية، أو على الأقل تقودها نخب سياسية محسوبة على اليسار، في الوقت الذي تمّ فيه تهميش معظم المفكرين والأكاديميين المرموقين والمثقفين، وإبعادهم عن المنابر الإعلامية، بينما منحت الكثير من الشخصيات الدينية مساحات مهمّة من الإعلام الرسمي.
لقد شهدت الدول العربية التي عرفت حراكاً شعبياً من أجل التغيير، ومع معاندة الأنظمة السياسية للضرورة التاريخية، ظهر خطاب سياسي وفصائل سياسية وعسكرية تستخدم الخطاب الديني، بل إنها استولت على الفضاء المعارض نفسه، وتمكّنت بفضل عوامل عديدة، من أبرزها الإرث القيمي الطويل لتلك المجتمعات، من الهيمنة والنفوذ، حيث استطاعت، بفضل الخطاب الديني، أن تستقطب فئات عديدة، وزجّها في مسار يختلف عن مسار مصالحها الحقيقية في التغيير.
إن نقد البنى الاجتماعية العميقة، والتي تشكّل إعاقة تاريخية في وجه التغيير، يجب ألا ينطوي على أي إهانة للشعوب، بل ينبغي أن يكون هدفه الرئيسي فهم أسباب استمرار المنظومة القيمية القديمة والمتأخرة في استحكام البنى الاجتماعية، والتحكّم في ردود أفعالها، وتحليل الشروط الاجتماعية والسياسية التي كرّستها، والتي لا تزال فاعلة بقوة في تحديد مصير مجتمعاتنا العربية.
إن تجاوز المجتمعات لمنظوماتها القيمية المتأخرة هو في نهاية المطاف جزء من صراع الشعوب من أجل تأكيد نفسها كجزء من التاريخ الحيّ، وللحفاظ على وجودها، بالمعنى الحضاري، أي بمعنى الإنتاج، والذي يمكن قياسه عبر مؤشرات محددة، من حيث الكم والنوع معاً، إذ إن المساهمة الحضارية تحتاج إلى الانخراط في روح العصر، وقيمه، وطرق إنتاجه، وليس رفضه، ومقاومته بالنكوص إلى قيم استنفدت شروطها التاريخية التي تأسست عليها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"