الدولة الحديثة ومبدأ الكرامة الإنسانية

04:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

كان الفيلسوف الألماني هيجل من أوائل الفلاسفة المعاصرين الذين ربطوا بين مفهومي «الدولة» و«الكرامة»، فقد اعتبر هيجل أن «العملية البشرية برمتها كان يحركها الكفاح من أجل الكرامة»، وبالتالي فإن غاية الكفاح البشري، من وجهة نظر هيجل، هي«التقدير الشامل والتساوي»، وفي فلسفة هيجل للتاريخ، فإن «الدولة هي غاية وليست وسيلة»، ومن هنا تصبح أحد أهداف الدولة السامية والرئيسة هي تحقيق الكرامة، أي تحقيق مبدأ التقدير والتساوي بين المواطنين، وهو ما يحفظ للدولة نفسها مكانة عليا في نظر مواطنيها، بوصفها الإطار الذي تتحقق فيه كرامتهم.
الدولة الحديثة نفسها، بقيت محط جدل كبير، فيما يتعلق بالنظام السياسي، وقد عرف القرن العشرون أنظمة سياسية مختلفة، سعت إلى بناء دول حديثة، ولا تزال العلاقة بين الدولة والنظام السياسي علاقة ملتبسة، وهذا الالتباس، يمكن تلمّسه في الصراعات القائمة اليوم في النظام الدولي نفسه، والذي يعاني هو الآخر من مشكلات جذرية في توازنات القوة في داخله، والتي تتعارض مع المبادئ التأسيسية للأمم المتحدة نفسها، خصوصاً مبدأ«سيادة الدول»، وهو مبدأ اعتمدته الأمم المتحدة، استكمالاً لمسيرة هذا المبدأ الذي تأسست عليه معاهدة «وستفاليا» في عام 1648.
هل يعني مبدأ«سيادة الدول»أن للدولة حق إقامة نظام سياسي يتعارض مع مبدأ الكرامة الإنسانية؟ وكيف للمجتمع الدولي أن يقرر أن نظاماً سياسياً ما ينتهك مبدأ الكرامة الإنسانية، وبالتالي يمكن للمجتمع الدولي أن يتدخل؟ ومن يكفل ألا يكون تدخل القوى العظمى في سيادة الدول لمصلحتها هي، وليس لمصلحة الشعوب؟
كانت ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تتوق إلى تجاوز تاريخها النازي، والويلات التي عاشها عدد كبير من المواطنين، نتيجة معارضتهم سياسات النظام السياسي لهتلر، وقد سعى المشرّع الألماني إلى وضع مبدأ الكرامة الإنسانية كمبدأ دستوري أعلى، فجاءت المادة الأولى للدستور الذي أقرّ في عام 1949، لتؤكد أن «كرامة الإنسان غير قابلة للمساس بها. فاحترامها وحمايتها واجب إلزامي على جميع سلطات الدولة»، وبهذا فإن الدستور الألماني وضع مبدأ الكرامة كمرجع للسلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية.
إن واحدة من المشكلات الكبرى التي تعاني منها الكثير من دول العالم، وخصوصاً في آسيا وإفريقيا، ومنها بلدان عربية، تتمثل في التباين بين هياكل الدولة الحديثة وبين المعنى الفعلي لتلك الهياكل، فمعظم الدول العربية، بعد الاستقلال، أقرّت مؤسسات حديثة، ووجدت فيها برلمانات، لتمثيل الفئات الاجتماعية المختلفة، وصون الحريات، ومنع التعدي على كرامة الأفراد، لكن كل تلك الهياكل المؤسساتية بقيت رهينة السلطتين السياسية والتنفيذية، مع ضعف واضح في التشريع، وفي القضاء، حيث لا يوجد فصل فعلي بين السلطات.
إن معظم الدول العربية، عرفت إنشاء محاكم عرفية، أو إجراء محاكمات صوريّة، وفي بعض الأحيان، كان النظام السياسي يزج بمعارضيه في السجون، من دون محاكمات، كما حدث في العراق وسوريا، في انتهاك صريح للكرامة الإنسانية، وفي الأعوام الأخيرة، قام النظام السوري بإخبار أهالي معتقلين لديه بوفاتهم، من دون تسليم جثثهم، وقد أصبحت دوائر النفوس اليوم هي المرجع لدى أهالي المعتقلين لمعرفة فيما إذا كان أبناؤهم قد قضوا تحت التعذيب، أو ما زالوا أحياء.
لقد أعطى الانتهاك الصريح لكرامة الإنسان في عدد من البلدان العربية ذريعة للتدخل الخارجي، سواءً عبر الضغط السياسي، وممارسة حالات من الابتزاز للأنظمة، أو التدخل المباشر في بعض الأحيان، وفي مثل هذه الحالات، فإن النظم السياسية تجد سنداً لها في مبدأ «سيادة الدول»، معتبرة أن مطالبة المجتمع الدولي بمنع الانتهاكات هو تدخل في سيادة الدول، من دون أي اعتبار للمشكلة الأساسية، وهي انتهاك كرامة الإنسان، عبر أساليب عدة، لا تنتمي إلى مفهوم الدولة الحديثة.
الدولة الحديثة ليست مجرد هياكل مؤسسية، وليست فقط دولة خدمات عامة، وليست دوائر جباية، إنها قبل كل شيء تحقيق لمبدأ المساواة بين الأفراد، وهو المبدأ الذي رفعته الثورة الفرنسية، واعتبره الفلاسفة والمفكرون، منذ ذلك الوقت، أحد الأسس الرئيسية للمواطنية الحديثة، ووظيفة الدولة أن تحافظ على المساواة، عبر مؤسساتها المختلفة، وهو ما يعني بلغة الفلسفة والواقع معاً الحفاظ على مبدأ الكرامة، حيث لا يحق للسلطة السياسية، مهما تغيّرت، أن تنتقص من ذلك المبدأ.
إن سيادة الدول كمبدأ مستقر في تحديد مفهوم الدولة الحديثة ليس مفصولاً عن سيادة المواطن، فلا وجود لدولة حديثة لا تحترم كرامة مواطنيها، فالمواطن الحر الكريم هو الذي يمنح الدولة سيادتها، بل ويدافع عنها ضد أي انتهاك خارجي لسيادتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"